شوف تشوف

الرأيثقافة وفن

التشظي بالعالم الإسلامي

 

بقلم: خالص جلبي

 

في يوم تقابل أربعون من الخوارج المتحمسين في منطقة اسمها «آسك» مع ألفين من جند بني أمية، فغلب الأربعون الألفين، بما زاد على نصاب الآية: «إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين»، فهنا قفز الرقم إلى خمسين ضعفا، ويومها أنشد شاعرهم:

 أألفا مسلم فيما زعمتــــم   ويهزمهم بآسك أربعونا

كذبتم ليس ذاك كما زعمتم    ولكن الخوارج مؤمنونا.

وبعد معركة «صفين» تحديدا انشطر المجتمع الإسلامي إلى ثلاث: من يؤمن بالإرهاب وسيلة للتغيير (الخوارج الدمويون)، ومن يؤمن بنظرية الدم النبوي (التشيع)، وفريق انتهازي أعاد إحياء روح القبلية وصادر الحياة الراشدية، وصرف المجاهدين إلى بيوتهم، واستبدلهم بجيش بيزنطي مرتزق (المروانيون).

وحسب المفكر «مالك بن نبي»، فإن التاريخ الإسلامي ينقسم إلى ثلاث مراحل زمنية تتطابق مع ثلاث مراحل نفسية: بين انبعاث الإسلام حتى معركة صفين، وهي مرحلة «التألق الروحي»، وبين معركة صفين وزمن ابن خلدون وهي مرحلة «العقل»، حيث تمثل مرحلة المحافظة على خط السواء بعد الانكسار مثل الطائرة التي تصعد إلى ذرى الغمام بطاقة صعود، ثم تستهلك المعتدل من الطاقة في مرحلة المتابعة. وبين انطفاء الحضارة الإسلامية إلى الحضيض، كما في غرق التيتانيك. والآن وهي فترة سيطرة «الغرائز»، بعد أن انتهت الطاقة من الخزانات الروحية، كما تنحدر الطائرة في نهاية رحلتها. وعندما تتبخر طاقة الروح تنفلت الغريزة من عقالها. وكما كانت رحلة الروح مفعمة بالطاقة، فإن الهبوط لا يحتاج إلى طاقة.

إن رحلة التشظي وظهور الإرهاب مقابل الانتهازية والتشيع، بدأت من عدم فهم الجهاد النبوي، وتغيير المجتمع السلمي.

والفرق بين الجهاد والجريمة شعرة، كما كان الفرق بين الزنا والاغتصاب والزواج أقل من شعرة. فكله يقوم على ممارسة عمل جنسي واحد، ولكن الأول يقوم على السرية، والثاني على الإكراه، والثالث بالرضا. والجراح الذي يريد إجراء عملية جراحية في سوق الخضر يتحول إلى جزار. وخطأ الحركات الإسلامية مضاعف في فهم جذر المشكلة، فهي ترى أن قتل الحاكم سيوجد النظام الديموقراطي. وفي يوم قتل الناس الإمام علي، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وعندما ينسحب الرشد من الأمة لا ينفعها أعدل الناس.

 وحركات الإسلام السياسي تنظر بعين حولاء إلى المشاكل وتركز جهودها على التغيير السياسي، كمن يظن أن الشمس تدور حول الأرض. في الوقت الذي لا يزيد الحاكم على قمر يدور حول كوكب الأمة.

لقد بذل الخوارج جهودا خارقة للإطاحة بالنظام الأموي، ولكن ما حصل أن من جاء إلى السلطة كان أسوأ منهم. وجاءت حكومة عباسية فرشت السجاد على جثث الأمويين المحتضرين، واستخرجت رمم الأمويين من القبور فشنقتها.

وسقطت تفاحة الحكم الناضجة ليس في حضن الخوارج، بل أبو العباس السفاح وأبو مسلم الخراساني. وهي تحكي مهزلة التاريخ وتناقضاته. واستمر تاريخنا على شكل دموي محموم من قنص السلطة الغادر، وتبادله بين أيدي العائلات الحاكمة. وعندما يشحن الشباب بالثقافة التقليدية من فقه العصر المملوكي، فلن توجد سوى عقلية المملوكي، وهذا المنهج يدرس للطلبة في كل من الجامع والجامعة. وهي انتقام للثقافة المخذولة أصابت إنسان المنطقة، حتى لو كان ماركسيا أو بعثيا. مما يؤكد استيطان الأمراض في الثقافات، كما في توطن البلهارسيا في مصر، وانفجار الطاعون في الهند. ومن يملأ بيته بكتب السحرة يتحول إلى ساحر. وفي عالم النحل يتم انتخاب عاملة تُغَذى برحيق الملكات، فتصبح ملكة بإذن ربها.

واعتبر غورباتشوف في كتابه «البيريسترويكا»، أن العصر النووي لا تناسبه أفكار من عصر الغابة والهراوة. وعندما خرج رجل من أصحاب الكهف بورقهم (الورٍق بكسر الراء)، ليشتروا أيها أزكى طعاما، كانت المفاجأة أن عملتهم بعد مضي ثلاثة قرون لم تعد صالحة.

وفي يوم دعيت إلى مسجد في دوسلدورف الألمانية، فكان الواعظ يتحدث عن دار الحرب ودار الإسلام، وأن علاقتنا بألمانيا واحدة من ثلاثة، «فإما دفعت ألمانيا لنا الجزية، أو اعتنقت الإسلام، أو أعلنا عليها الحرب».. كان الرجل يتحدث بجدية وهو يختص عندهم في الطب. قلت له: ما رأيك لو أن أمريكا اشترطت على الاتحاد السوفياتي ما تقول، هل تتوقع سوى حرب نووية؟ كان جوابه، الإسلام أهم من الحرب النووية ودمار العالم.

 إن من يتجاهل التاريخ عقوبته أن يتجاهله الواقع، والسلوك مرتبط بنظام الفكر، كما أن التفجيرات هي من ديناميت الثقافة. ويجب إعادة النظر في مناهج التعليم، أن تتم بيد متخصصين لا يؤلهون القائد إلى الأبد، أو يختزلوا الأحداث ضمن إطار الحاكم، ويخلصوا التاريخ من طوفان الكذب. وإيجاد إنسان عربي عالمي منفتح على بقية الثقافات خارج تربية الحزب القائد، وعبودية القائد والحاكم.

إن قليلا من الملح للطعام لا غنى عنه، وإن جرعة متوازنة من التدين ضرورية، مثل البوصلة في غابة أو صحراء. ولكن زيادة قبضة من ملح إلى الإناء تشبه التشدد في الدين، والمشي في صحراء أو غابة بدون بوصلة هادية، أو نجم يهتدى به نهايته الهلاك، فلا أرضا قطع ولا طعاما أكل. 

 

نافذة:

إن من يتجاهل التاريخ عقوبته أن يتجاهله الواقع والسلوك مرتبط بنظام الفكر كما أن التفجيرات هي من ديناميت الثقافة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى