عبد الإله بلقزيز
تؤدي الحروب بالوكالة وظيفة محددة وجزيلة الفوائد بالنسبة إلى من يقع لهم اختيارها: النيابة عنهم في تحقيق أهدافهم، بما يقترن بتلك النيابة من حمل أعباء الحرب عنهم. أما أن يتحمل خائضوها، من البلدان الصغيرة، الكلفة البشرية والخراب والدمار، فذلك – في عقيدة من يسخرونهم لهذا الغرض- جزء من ثمن ترتبه عليهم تبعيتهم للدول الكبرى و«محالفتُهم» إياها. لا يتوقف خطاب السيد (الدول الكبرى)، كثيرا أو قليلا، أمام أي اعتبار أخلاقي حول مدى مشروعية أن يستعير رقاب غيره من الضعفاء، لِتَحْمل عنه الذبح؛ إذِ في الأخلاق عنده مفسدة للسياسة وخسران مبين للمصالح، فيما هو يَدين لعقيدة المصلحة، في المقام الأول، ويمني النفس – في أفضل أحوال الشعور بالمسؤولية عنده – بأنه يقدم يد العون إلى من يقدم له خدمة الحرب بالوكالة فيمول حربه، أو يتحمل قسما من أعبائها المادية، متناسيا أن حرب الوكيل ما هي إلا الاسم الحركي المستعار لحربه هو.
من الواضح أن الدول الكبرى التي تَكِلُ إلى مَن دونها قوة (من دول الجنوب) أن تنهض «بواجب» تقديم الخِدْمات العسكرية والأمنية نيابة عنها، تتعامل مع جيوش تلك الدول الصغرى وكأنها جيوش مرتزقة، تشبه كتائب المقاتلين المرتزقة التي اعتادت تسخيرهم في جيوشها أثناء الحروب. كأن الأمر لا يتعلق، هنا، بجيوش وطنية لدول مستقلة، أي بمؤسسات هي العنوان الأظهر لسيادات الدول؛ بل بمجموعات قتالية جاهزة لإجابة الطلب عليها من الخارج.
وهذا ما يُفصح عن استمرار عقلية استعمارية عنصرية لدى الدول الكبرى، اليوم، حتى بعد استقلال المستعمرات عنها. إنها عينها العقلية التي كان تبيح للمستعمِر، قبل عقود من اليوم، أن يجند عشرات الآلاف من أبناء المستعمرات ويزج بهم في حروبه الاستعمارية في بلدان الجنوب، أو في مواجهة أعداء له كبار من القوى الدولية. ومن آخر الفصول التي شهدت فيها البشرية على هذا التسخير الاستعماري البغيض لأبناء المستعمرات في الحروب ما حصل في الحرب العالمية الثانية من تجنيد لهؤلاء لمواجهة الجيوش النازية، في صورة بَدَوْوا فيها وكأنهم جيوش من المرتزقة، وما هُم بمرتزقة لأنهم أكرهوا على التجند ولم يسعوا إليه، بأنفسهم، قصد تحصيل مغنم: وهو معنى الارتزاق على الحقيقة.
لعل الفارق الوحيد – ولكن الأساسي – بين المرتزقة الفعليين، الذين ألفت الدول الكبرى تجنيدهم في حروبها، والجيوش التي تصطنع لها الدول الكبرى أدوارا تقارب أن تُشابِه أدوار المرتزقة، أن المرتزقة الفعليين ينتمون إلى حروب مباشرة تخوضها جيوش تلك الدول وبالتالي، فهم يشاركون جيوشها تلك الحروب ويتلقون عن مشاركتهم مقابلا ماديا، شأنهم شأن المستأجَرين من مقاتلي الشركات الأمنية الخاصة، ممن يقدمون خِدْمات أمنية لجيوش الاحتلال (على نحو ما حصل مع الاحتلال الأمريكي للعراق).
لكن المقاتلين المُسَاقين – من قِبَل الاستعمار- من أوطانهم إلى مستعمرات أخرى أو إلى أوروبا لحرب النازية (مثل الذي فعلته فرنسا مع أبناء مستعمراتها في المغرب العربي ومجمل إفريقيا)، ليسوا من جنود الدول الاستعمارية وإنما سيقوا، بقوّة الأمر الواقع (الاحتلال)، للمشاركة في حروب ليست بلدانهم طرفا فيها. أما جيوش الدول الصغرى المستقلة فتفرض عليها سياسات الدول الكبرى أن تُشْعِل حروباً بينها تتسخر فيها تلك الجيوش لخدمة أهدافها وكأنها مرتزقة، من غير أن تكون كذلك في تكوينها وعقيدتها العسكرية.
والحق أن هذا التسخير العسكري لجيوش دول من الجنوب خدمة لمصالح الدول الكبرى لا تتحمل مسؤولية التورط فيه تلك الجيوش نفسها، ولا حتى قياداتها؛ بل النخب السياسية التي قادتها إلى التورط في تلك الحروب، بدعوى المصلحة الوطنية. وبيان ذلك أن قرار الحرب ليس بين أيدي النخب العسكرية (إلا إذا كانت حاكمة)؛ بل يتخذه صناع القرار المدنيون، ولا رأي للعسكريين فيه إلا في خططهم الحربية. والقيادات السياسية تنساق إلى حروب الوكالة إما عن اقتناع منها بفوائد ذلك على بلدانها، أو من باب استغفالها في هذه المسألة أو تلك؛ ولكن الغالب عليها أنها تُسْتَدْرج إلى الحروب استدراجا يتضافر على صناعته كل من سلطة المعلومات والاستخبار، التي تملكها الدول الكبرى، والدهاء السياسي لسياسيين محترفين ورثوا من دهاقنة الاستعمار تقاليده في استدراج نخب الجنوب إلى الفخ.
هكذا نُلْفي مسؤولية الدول الكبرى في إنجاب ظاهرة الحروب بالوكالة قائمة لا غبار عليها. غير أنها كثيرا ما تنجح في طمس بصماتها بحيث ترفع عنها أي اشتباه. تفعل ذلك لا من باب خوفها من الانفضاح؛ بل لتضمن لنفسها حقا في إدارة الأزمة بين المتحاربين، وربما تجديدها عند الاقتضاء.
نافذة:
التسخير العسكري لجيوش دول من الجنوب خدمة لمصالح الدول الكبرى لا تتحمل مسؤولية التورط فيه تلك الجيوش نفسها ولا حتى قياداتها بل النخب السياسية