التسارع النووي وجنونه
بقلم: خالص جلبي
مشى التسارع بعد ذلك في اتجاه زيادة القدرة التفجيرية بعد أن وصل الاتحاد السوفياتي إلى تفجير قنبلته الانشطارية الأولى عام 1949، وأعطاها لقب (جو 1) نسبة إلى جوزيف ستالين، فجن جنون البنتاغون (وزارة الدفاع)، فاستدعت (إدوارد تيلر) للمضي في مشروع جهنمي كبير لا تعتبر القنبلة الانشطارية أمامه بشيء، في حين تم استدعاء الرأس العلمي (روبرت أوبنهايمر) للتحقيق تحت شبهة تهريب المعلومات النووية للسوفيات، وتهمة الجاسوسية.
وفي مارس من عام 1954 تم تفجير قنبلة بقوة 18 ميجاطن (أقوى من قنبلة هيروشيما بألف مرة)، فقنبلة هيروشيما متواضعة جدا فهي من عيار (18) كيلو طنا، أي ألف طن، أما هذه فهي من عيار (مليون طن) من المادة المتفجرة!
كان بإمكان هذه القنبلة الجديدة مسح عاصمة عالمية من خريطة الوجود، مثل دلهي أو طوكيو إلى درجة إصابة الناس بأشد انواع الحروق (درجة ثالثة) حتى بعد 45 كيلومترا من مركز الانفجار. وتوج تصعيد التفجير في عام 1958 بتفجير قنبلة سوفياتية من عيار 58 ميجاطن، أي أقوى من قنبلة هيروشيما بـ(3800) مرة! وفكرت البنتاغون بمشروع أشد هولا (تفجير قنبلة بعيار 100 ميجاطن)، ولكن الطرفين شعرا أنهما يمضيان في طريق الجنون المطبق.
في المرحلة الثالثة تم الوصول إلى ما اعتبروها قنبلة نظيفة وما هي بنظيفة (القنبلة الشعاعية النيوترونية)، حيث يمكن الفتك بالوحدات العسكرية (البشر) دون المعدات والأبنية والمنازل، لأنها أثمن من الإنسان!
في المرحلة الرابعة بدؤوا في اتجاه تصغير القنبلة، فبدلا من الكيلو طن؛ ليكن عُشر الكيلو وهكذا تم إنتاج قنابل من عيار 30 – 100 طن من المادة المتفجرة، وبذلك بدأ السلاح الناري العادي والنووي في الاقتراب من بعضهما، أي بروز السلاح النووي التكتيكي، ويمكن لهذه (التفاحات) الصغيرة أن تُقذف بمدافع الميدان المخصصة لها، وظن الاستراتيجيون أنهم اكتشفوا البديل، ولكن باتصال العالم النووي بالعالم العادي بدا العالم العادي التقليدي مهددا بالزعزعة، فأي نزاع يتطور عبر الأسلحة (التقليدية) يمكن أن يتزحلق إلى استخدام (بدايات) السلاح النووي (التكتيكي)، ليصل في النهاية إلى السلاح النووي (الاستراتيجي) تحت مبدأ (التصاعد الآلي)، الذي أشار إليه المنظر والخبير الاستراتيجي النووي الجنرال (بيير غالوا).
كانت الحاجة ماسة إلى (نظام نقل) للرأس النووي، لذا قام الروس الذين استفادوا من خبرات نظام الصواريخ الألماني في ألمانيا الشرقية التي وقعت تحت سيطرتهم، والتي كان قد وضع هتلر فيها مراكز أبحاثه بعيدا عن قاذفات الحلفاء، في تطوير نظام القاذفات الاستراتيجية وأهم منها النظام الصاروخي. ومع إرسال (سبوتنيك) الأول عام 1957م والذي يحمل القمر الصناعي الروسي، أصبح بالإمكان حمل رأس نووي بدلا من قمر صناعي! وحمي الوطيس في تطوير الصواريخ العابرة للقارات، وفي النهاية أمكن وضع جهاز هجومي يمكن أن يصل إلى أي مكان في الكرة الأرضية خلال دقائق! فالغواصات النووية السوفياتية الرابضة في قيعان المحيط الهادي والأطلنطي، كان يمكن أن تصل إلى أي هدف في الولايات المتحدة الأمريكية في فترة أقصاها 4 – 6 دقائق.
كان التكتيك الأول هو (الهجوم) فتحول إلى (الدفاع)، ثم بطل كلاهما. وشرح ذلك كما يلي: ففي الهجوم يمكن تحقيق الضربة الاستباقية وإبادة الخصم، ولكن تبين أنه مع السلاح النووي يمكن للخصم المضروب، أن ينتقم وهو يغرغر في سكرات الموت النووي بما تبقى عنده من صواريخ ليأخذ معه إلى الدمار النووي خصمه المهاجم، كذلك بدأ الخوف من احتمال الخطأ، كما لو شعر أحد الطرفين وبخطأ من خلل راداري أن هناك هجوما عليه، مما يجعله يحرك صواريخه التي لن يستطيع سحبها كما في القاذفات الاستراتيجية التي يمكن أن ترجع إلى قواعدها، فالصواريخ حققت السرعة الخيالية ولكنها إذا ضربت لن تسحب، فبرزت عقيدة (الانتظار النووي) للتأكد من الهجوم الصاروخي النووي، حتى يتم الرد عليه كي يذهب الاثنان إلى الفناء النووي، ولكن بأربعة شروط:
1 – الصواريخ المضادة المحمية.
2 – التمكن من اختراقات العدو المهاجم.
3 – الكمية الكافية.
4 – العمل الآلي.
ومن أجل تأمين حماية الصواريخ تم تطوير ثلاثة أنظمة، الأول (السيلو)، أي الفتحة المختبئة في الأرض فلا ترى، وليس هذا فقط، بل خرسانة مسلحة لسبعين مترا ويزيد تحيط بالصاروخ النووي، بحيث لا تؤثر فيه حتى الزلازل، ولذا وجب على الصاروخ المهاجم أن يضرب فوهة (البئر) النووية المختبئة في الأرض وبقنبلة هيدروجينية، حتى يمكن تعطيل أسلحة الهجوم عند الخصم، ومن هنا ندرك عمق كلام الياباني (شينتارو إيشيهارا) الذي كشف النقاب في كتابه «اليابان الذي يستطيع قول لا لأمريكا»، حين أشار إلى علاقة دقة تصويب الصواريخ بالكمبيوترات التي تصنع في اليابان. الثاني المنصات المتحركة، والثالث المحمول في الغواصات النووية. ومن خلال هذا الاستعراض السريع الذي كتب فيه الاختصاصيون كتبا وأفنوا أعمارهم، يمكن عرض حزمة الأفكار التالية:
1 – الفكرة الأولى تقول: إن علينا استيعاب العصر الذي نعيش فيه، وبالتالي فهم الاستراتيجية النووية، ورحلة القوة النووية. وإن العصر (الحراري النووي) هو عصر جديد مختلف كلية ولم يعد عصر الكهف والهراوة ولا عصر المدفع والبارجة، والذي تفطن إلى هذا هم العلماء وليس السياسيين، لأن كثيرا من السياسيين لا يرون أبعد من أرنبة انفهم، وهو ما انتبه إليه غورباتشوف في كتابه «البيريسترويكا» فطرح فكرة (الانتحار النووي) فلم يعد الأمر بحاجة إلى أن أهاجم أو أهاجَم، يكفي أن أفجر أسلحتي النووية فوق رأسي كي يتلوث سطح الكرة الأرضية وأن تدمر الحياة، وإن في قصة (تشيرنوبيل) لعظة. وهكذا أبطلت القوة القوة وبدأ الإنسان يضع قدمه في أول طريق السلام التاريخي، وهكذا رأت أعين الجنس البشري وللمرة الأولى توقف الحرب بين الذين يملكون (المعرفة)، سواء امتلكوا السلاح أو فقدوه، وأصبح الذين يملكون المعرفة بالتالي يتحكمون في مصير الحروب، وأصبحت الحروب أساليب العاجزين، عجزا عن السيطرة عليها والتمكن من خاتمتها.