شوف تشوف

الرأي

التراث وتجديد التفكير الديني

خالص جلبي
مع سقوط الخلافة الإسلامية (الدولة العثمانية) ارتج العالم الإسلامي وما زال. وانتصرت القومية الطورانية في تركيا، لتلحقها ولادة دولة إسرائيل متأخرة عن ولادة القوميات في أوربا بمسافة قرن، ثم لحق ذلك تفتت العالم العربي، وقفز المغامرين من العسكر على السلطة؛ فقتلوا الإنسان والزمان والمكان والبيئة والعلم، وغاب العالم العربي في الظلمات بين مواطن أعمى ومثقف مدجن وصحافة مرتزقة وفقيه غائب عن العصر، وقيادات لا تحسن قيادة السفينة في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض. أما العالم المحيط بنا فتحول إلى غابة عالمية بين أسد أمريكي ودب روسي وتنين صيني وفيل هندي ونمر ياباني ونسر أوربي وثعلب صهيوني وجمل عربي.
مباشرة ولدت الحركات الإسلامية على أنغام الثلاثي (الأفغاني وعبده ورشيد رضا)، وبذلك وفي دفعة واحدة ولدت حركة الإخوان المسلمين في مصر وحزب التحرير في القدس، كارتكاس حاد لسقوط الخلافة الإسلامية. وليست الحركات المسلحة التي تفرخ بين حين وآخر إلا شوقا لفترة يرونها ذهبية، ولكن هل كانت فعلا كذلك؟
محمد إقبال كتب (تجديد التفكير الديني) من الهند، و(تقي الدين النبهاني) في القدس كتب (الدولة الإسلامية) و(سيد قطب) في مصر كتب عن (معالم في الطريق) لمواجهة جاهلية القرن العشرين على حد تعبير محمد قطب. في الوقت نفسه برز الكتاب اليساريون الذين رأوا أن هذا الانهيار خلفه الرجعية العربية، في حين قال أصحاب الاتجاه الإسلامي إن خلف نكسة 1967م الاتجاه القومي العلماني. هما في الحقيقة يخلدان انهيار المنطقة أمام أي حركة إصلاح ونهوض وما زال.
وهكذا فنحن أمام اتجاهات شتى للنهوض بالأمة وقد أرسل إلي الأخ المفكر (أحمد كنعان) بعض خواطره في الموضوع، سوف نحاول عرض بعضها على القارئ. يقول كنعان:
(ما زال هم «التجديد» يلاحقنا- نحن المسلمين – منذ قرنين على أقل تقدير، آملين اللحاق بركب الحضارة المعاصرة التي بدأت بوادرها أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، في أعقاب «الثورة الفرنسية» التي تمخضت عما سمي عصر «الأنوار»، الذي نقل أوربا من عصر التخلف والانحطاط إلى عصر النهضة المعاصرة).)
ويرى كنعان أن التراث هو روح الأمة ويعرف بأنه: (كل ما أنتجه العقل المسلم عبر تاريخه، من علوم ومعارف وأدب وفنون، في ضوء الإسلام، وأصبح يشكل المرجعية الفكرية والروحية للأمة، وبهذا التعريف للتراث الإسلامي نخرج كل ما هو وحي سماوي من التعريف، فالوحي السماوي ليس تراثا بالمعنى الذي قدمناه، وإنما هو عطاء رباني معصوم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو ينطوي على حقائق مطلقة غير خاضعة لتقلبات الزمان والمكان والأحوال، أما التراث فهو نتاج بشري غير معصوم، فيه حق وباطل، وخطأ وصواب، وهو يخضع لتقلبات الزمان والمكان والأحوال، كما سوف نبين في وقفات تالية).
ثم يغوص كنعان لمعرفة رأي المؤرخين: (المؤرخ الإيطالي جيوفاني باتستا فيكو (1668 ـ 1774)، الذي ذهب إلى أن الحضارات تبدأ بالتفكير الديني، ومنهم كذلك الفيلسوف المؤرخ الألماني أوسفالد شبنغلر (1880ـ 1936)، الذي ذهب إلى أن (الحضارة تولد في اللحظة التي تستيقظ فيها روح عظيمة)، ومنهم أيضا المؤرخ البريطاني أرنولد جوزيف توينبي (1889 ـ 1975) الذي كتب يقول: (إن الحضارات تزدهر، أو تتدهور، وفقا للطاقة الروحية التي تتميز بها الأقلية المبدعة)، وهذا ما حصل في حضارتنا الإسلامية الأولى، حين اتصلت الأمَّة بوحي السماء، واستيقظت فيها تلك الروح العظيمة، فأبدعت ذلك التراث الإنساني الفريد الذي جعلها في سنوات قليلة سيدة الدنيا، بعد أن كانت تعيش حياة البداوة والعداوة والتمزق والشتات).).
في هذا الصدد يذهب أيضا المفكر مالك بن نبي إلى فكرة دورة الحضارة بين ثلاث مراحل (الروح مع الانبعاث، والعقل من الديمومة والغريزة مع الانحطاط).)
ويرى كنعان: (أثبتت وقائع التاريخ في مناسبات أخرى كذلك، أن التفاعل ما بين تراث الأمة وواقعها إذا ما اختل فعندئذ تحدث الأزمة، وتدخل الأمة مرحلة الجمود والتخلف والانحطاط، ولا تلبث أن تغيب عن الساحة). وحين يحدد اتجاهات التصحيح يقول إنهم:
فريق أصولي: يدعو إلى التمسك بالتراث.
وفريق تحرري: انتهى إلى رؤية معاكسة، تدعو إلى القطيعة مع التراث، ونلاحظ هنا، أن الفريقين يربطان الأزمة بالتراث، لكنهما ينتهيان إلى رؤية متباينة بشأنه،
ليصل في وجهة نظره أن الحل هو: (تجديد التراث وتفعيله ليعود حاضرا بكفاءة في صناعة واقع جديد)، لأننا (على حد قوله) نؤمن إيمانا راسخا بأن الأمة التي تنقطع عن تراثها تمسي كالشجرة التي انقطعت عن جذورها، ويؤكد كنعان على (الأدوات المعرفية التي أنتجت هذا التراث، لأن هذه الأدوات تشكل جزءا لا يتجزأ من التراث نفسه). وهكذا .. نتفق مع الذين أرجعوا الأزمة إلى (التراث)، لكن بالمعنى الذي بيناه آنفا، والذي يتلخص بضرورة تجديده، (ونركز فيه على بعض العلوم الأكثر تأثيرا في تشكيله، سيما «علم أصول الفقه»، المؤسس الأول للتراث الإسلامي؛ فالفقه هو المرجعية الفكرية والروحية للمسلم، والفقه هو الميزان الذي يزن به المسلم أفعاله.
هذه هي رؤية المفكر كنعان عن التغيير المنتظر، وهذا يقودنا إلى فهم جدلية النصوص والواقع. فالعالم الإسلامي لم يفطن إلى طبيعة التغيرات التي حدثت ويدرس جذورها ومن أين ولدت. وظاهرة الانحطاط جدا معقدة وهي مثل اندلاع الأمراض والأوبئة، ولا يمكن حصرها في عنصر واحد، ولكن بالانتباه إلى أمرين: الأول تعدد عناصر ولادة أي حدث، وهو ما يسمى في علم الطب بتعدد العناصر (Multifactorial).
كما في سقوط ورق الشجر أو انهيار سوريا الحالي أو تدمير حضارة آشور وفرعون ذو الأوتاد أو تفسخ البنايات ومرض البدن، فكلها ترجع في النهاية إلى عنصر داخلي متعدد، وليس العنصر الخارجي إلا مؤشرا لما يحدث في الداخل، كما في ظاهرة الاستعمار والاستحمار بتعبير المفكر الإيراني شريعتي (خارج مؤسسة الملالي).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى