التدريس ليس رفاهية مهنية
المصطفى مورادي
قرار العثماني توظيف نص قانوني قديم، والسماح بتوظيف البالغين خمسين سنة في مهنة التدريس، هو قرار خاطئ تماما من الناحية المهنية والتربوية. فهؤلاء الموظفون الجدد، سيكون عليهم قضاء سنتين من التداريب، أولها في المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، حيث ساعات التكوين في الأسبوع تصل إلى ثلاثين ساعة. تتضمن دروسا مكثفة في علوم التربية والديداكتيك والتخصصات، تتخللها أبحاث وعروض يقوم بها هؤلاء على مدار الأسبوع. وكل هذا يفترض التزاما وتفرغا ذهنيا تاما. وبعد تخرجهم سيكون عليهم البدء في العمل انطلاقا من فرعيات العالم القروي، حيث يعد الحصول على «خطاف» حلما حقيقيا، وحيث الحصول على غرفة مهترئة أو مستودع قديم قصد السكن «رفاهية» يتنافس عليها المدرسون القدماء، فكيف بالجدد. وبعد هذا سيكون عليهم أن ينسوا التزاماتهم العائلية التي انخرطوا فيها طوال نصف قرن ليتفرغوا لعمليات تحضير الجذاذات التي تتراوح بين سبع وعشر جذاذات في اليوم، لكونهم مجبرين على التحضير اليومي لكل درس. وما يزيد الضغط عليهم، هو أن هناك تعليمات واضحة لأطر الإدارة والتأطير التربوي، بالتشدد في مسألة الحضور الدائم فضلا عن الالتزام بالتحضيرات الخاصة بالدروس، ومراقبة وتأطير ومتابعة أنشطة التلاميذ، سواء منها الأنشطة الصفية أو تلك التي يتم تنظيمها في الحياة المدرسية. وسيكون عليهم أيضا الحضور الدائم في اجتماعات مختلف المجالس التي تضمها مؤسساتهم التربوية. بل وعندما ستدخل مقتضيات القانون الإطار، الخاصة بالتكوين المستمر الإجباري، حيز التنفيذ، سيكون عليهم التنقل في أوقات فراغهم نحو المديريات الإقليمية أو المركزيات لحضور دورات التكوين.
هذه لمحة مبسطة جدا عما تعنيه مهنة التدريس اليوم، إنها قبل كل حديث عن أخلاقيات المهنة وغيره من باقي «الرفاهيات» شد عصبي وجهد نفسي وبدني كبيران. والسؤال هو: هل يمكن لامرأة أو رجل بلغا من العمر عقدهما الخامس، وسيدخلان عقدهما السادس وهما ما يزالان في وضعية تدريب، الوفاء بكل هذه الالتزامات بالجودة المطلوبة؟ ألا يعكس هذا القرار نوعا من الاستخفاف الواضح بقطاع التعليم وتحديدا مهنة التدريس؟ لماذا تشترط مديرية الأمن الوطني، مثلا، عدم تجاوز سن الثلاثين سنة كحد أقصى لولوج إحدى المهن الأمنية؟ هل كان العثماني ليتجرأ ويتخذ القرار نفسه في قطاع الأمن؟ فكما أن المهن الأمنية تتطلب مواصفات بدنية ونفسية خاصة قبل الخضوع للتكوينات المهنية، ليواكب المنتسبون لهذه المهن الرهانات الكبرى التي يفرضها الوضع الأمني والاجتماعي والحقوقي للبلد..، فإن المبدأ ذاته ينبغي أن يطبق على مهنة التدريس التي لا يشك أحد في كونها تتطلب استعدادات خاصة.
إن إلقاء نظرة على مئات الملفات المرضية التي يتقدم بها نساء ورجال التعليم كل سنة للاستفادة من التقاعد النسبي، مفضلين التضحية بأجزاء هامة من رواتبهم في سبيل الخروج من قطاع التعليم، سيجعلنا نرى بوضوح الآثار النفسية والعصبية والجسدية التي تخلفها مزاولة مهن التدريس، خصوصا في ظل التحولات العميقة التي تعرفها صورة المربين عموما في مجتمعنا. لذلك كان حريا بالعثماني أن يصدر مرسوما يعدل قانون الوظيفة العمومية كما فعل سلفه بنكيران بخصوص فصل التوظيف عن التكوين، ويفرض سن الثلاثين سنة كحد أقصى لمزاولة مهنة التعليم. ولكي يتأكد العثماني من الحاجة لقرار كهذا، ما عليه إلا أن يطلب من الأكاديميات أرقام متقاعدين غادروا مهنا أخرى وعادوا إلى مهنة التعليم كمتدربين.