يتيح اللقاء الأول مع أي قسم فرصة زرع بذور سنة سهلة، أو اتخاذ الخطوة الأولى على طريق الفشل وبالتالي سنة صعبة. لا شك بأن كل المعلمين سبق واختبروا الخوف والشك والتردد عند دخول تلاميذ جدد إلى فصولهم، لإدراكهم أن ما سيفعلونه في ذاك اللقاء الأول سيكون له تأثير طويل الأمد، قد يتجاوز أمده السنة الدراسية والواحدة، وخصوصا المدرسين الجدد. وغالبا ما يتخذ كل من المدرس والتلاميذ موقفا دفاعيا خلال الحصة الأولى، وربما يتخذون مواقف تفيد «التساهل» و«التفهم» و«التعاطف»، وفي كلتا الحالتين ينبغي التفكير بحكمة في تبعات كل موقف.
نافذة: يقوم التلاميذ بتشخيص ورصد كفاءة ومهارات المدرسين والمدرسات من خلال حديثهم وهندامهم وطريقة تواصلهم وسلوكهم التي تجعلهم يبنون عليها أحكامهم
ونحن في بداية السنة الدراسية الجديدة الذي اختير لها شعار: «من أجل مدرسة ذات جودة للجميع»، وهو شعار يحمل من التطلعات والآمال ما يتطلب توفير الشروط المادية واللوجيستيكية والتربوية اللازمة لذلك من بنيات تحتية وموارد مادية وبشرية كفؤة ومناهج تربوية متقدمة تستجيب للحاجات المتجددة للمدرسة والمجتمع وللتحولات والأحداث الطارئة، لا بد من إثارة بعض القضايا والمواضيع التي تسعف في نجاح الممارسة التربوية وتحقيق غاياتها وأهدافها.
إن تلك القيم المتضمنة في هذا الشعار وما ينطوي عليه مفهوم الجودة في التعليم من مبادئ وضوابط لا بد أن تمثل قناعة راسخة لدى المدرس يتمثلها في سلوكه وممارسته التربوية ويعمل على تصريفها من خلال الاحتكاك اليومي بالمتعلمين والتفاعل الإيجابي مع انشغالاتهم لترسيخ هذه القيم في نفوسهم وأذهانهم.. ولتكون هذه الممارسة ناجحة لابد من منح اللقاءات الأولى بالمتعلمات والمتعلمين في بداية الموسم الدراسي ما تستحقه من الاهتمام لتكون الانطلاقة ناجحة خاصة على مستوى العلاقة التربوية بين الطرفين: المدرس والمتعلم.
إن اللقاءات الأولى تكون حاسمة في رسم معالم تلك العلاقة التربوية.. كثير من المدرسين والمدرسات لا يدركون أهمية هذه اللقاءات ولا يعيرونها ما يلزم من الاهتمام، فلا يكفي أن يسرد المدرس عليهم قواعد للانضباط والدعوة للامتثال لها أو يصوغها بمعيتهم في شكل ما يسمى «تعاقدا بيداغوجيا» يعتقد أنه سيكون عصا سحرية يتم تسخيرها لفرض الجدية والمواظبة والالتزام على امتداد السنة الدراسية..
إن اللقاءات الأولى لقاءات توجيهية تربوية وإنسانية يعمل من خلالها المدرس على «تذويب الثلوج» وذلك بإزاحة كل أشكال القلق والتوجس وغياب الثقة بالنفس وسلوك منحى الود واللطف مع إبداء الحزم اللازم بدل سلوك مسلك الصرامة والشدة أو التراخي والتساهل المفرط الذي يقود إلى الانفلات والعجز عن ضبط وتدبير القسم.
وإذا كان المدرسون والمدرسات يقومون في بداية الموسم الدراسي بتشخيص المكتسبات القبلية للمتعلمين والمتعلمات، فإن هؤلاء أيضا يقومون بتشخيص ورصد كفاءة ومهارات المدرسين والمدرسات من خلال حديثهم وهندامهم وطريقة تواصلهم وسلوكهم التي تجعلهم يبنون عليها أحكامهم وتصوراتهم لشخصية المدرس وطريقة التعامل معه ومع حصصه الدراسية على امتداد الموسم الدراسي..
تدبير القسم بكفاءة واقتدار يحتاج إلى مجموعة من الكفايات والمواصفات أهمها أن يستشعر التلاميذ صدق عاطفتك تجاههم وحرصك على احترام مبدأ التكافؤ بينهم وأنك ترغب في نجاحهم وتخشى عليهم من الضياع وخسارة مستقبلهم.. تفعل كل ذلك بصدق واجتهاد وإخلاص فهم يدركون بحدسهم مدى صدقك وجديتك فيقدرونك ويحبونك.
يعمد بعض التلاميذ ممن يفتقرون إلى النضج الكافي أحيانا في بداية العام الدراسي إلى قياس حجم قدرتك على ضبط انفعالاتك وردود أفعالك وطريقة تدبيرك بما يثيرونه من أفعال قد تخل بقواعد الانضباط.. يحدث ذلك كثيرا مع تلاميذ في سن المراهقة وهو ما يتطلب عدم الانسياق مع هذا التصرف باعتماد العنف اللفظي أو المادي حلا لمواجهته، بل يستوجب التعامل معه بطريقة إيجابية تقلل من حجم ذلك التصرف – وليس معنى ذلك تجاهله أو التغاضي عنه – يتم من خلالها تمرير قيم ورسائل تربوية تعكس شخصية المدرس، وغالبا ما يكون المدرس بكفاءته وحسن تدبيره هو الرابح الأكبر.. ليس في ذلك كما يرى بعض المدرسين إهانة له وتبخيسا لرسالته التربوية فيغضب لذلك ويتأسى ويلعن مهنته ويلعن اليوم الذي قرر فيه امتهانها وقد يخطئ التصرف نتيجة انفعاله فيتخذ مواقف غير سليمة أو يقبل على سلوك متسرع قد يؤثر على علاقته بتلاميذه أو على أدائه التربوي ومساره المهني.. فرسالتي كمدرس هي أن أدرس وأعلم وأربي وأقوم سلوك تلامذتي وأعمل على تعديله وإصلاحه كلما بدا فيه خلل أو اعوجاج.
إن مهنة التربية والتعليم مهنة تحد لتلك الإكراهات التي تصادفك في عملك واشتغالك اليومي كمدرس ومرب ولتلك التعثرات والصعوبات في السلوك والتحصيل الدراسي الحاصلة لدى بعض المتعلمين لدفعهم وتحفيزهم على تجاوزها بالوسائل والطرق التربوية الفعالة وبالحس الإنساني الداعم لها.. وهي عملية تعلم متواصل من خلال التأمل في الممارسة ونقدها وتطويرها عبر التكوين والتكوين المستمر.
إن التدريس يمكن اعتباره فنا، فهو يستند إلى تلك الخصائص الشخصية والذهنية للمدرس ليخلق انطلاقا من المعارف المتوفرة والطرق البيداغوجية والتجربة والخبرة المكتسبة أشياء جديدة تمنح المدرس تميزه وفرادته وتترك بصمة خاصة تنطبع على أدائه المهني وعلى علاقته بالمتعلمين فتتحقق بسلاسة الكفايات والأهداف المرسومة للعملية التعليمية بل تتجاوزها لتترك أثرا إنسانيا جميلا في نفوس المتعلمين والمتعلمات.
يستحيل إذن إتقان هذه المهنة والنجاح فيها وتحقيق رسالتها إذا لم يتوفر المدرس على ما يلزم من المعارف والخيال الإبداعي والحس الإنساني فالتدريس ليس نقلا للمعارف فقط، إنه ممارسة تربوية يتقاطع فيها ما هو معرفي أكاديمي وما هو فني إبداعي إنساني ينبثق من الخصائص الشخصية والإنسانية للمدرس. غير أن هذه الممارسة لا ترقى بالشكل المطلوب إذا لم تتوفر لها الوسائل والشروط المادية والمعنوية المنصفة والمحفزة.