التجربة اليابانية
هذا الأسبوع زارنا في المغرب صحافي ياباني من أعرق وأقدم صحيفة في اليابان واسمها «يوموري شيمبون»، والتي تأسست منذ 1844 وتبيع أزيد من 20 مليون نسخة يوميا.
هذا الصحافي اسمه «هيرومي يوتشي»، وهو مسؤول عن مكتب الجريدة في الشرق الأوسط، وهذه ثاني مرة يزور فيها المغرب، وتربطني به صداقة متينة جدا منذ سنوات.
لكن السبب الذي جعلني أكتب عن هذا الصحافي، أنه يشتغل هذه الأيام على تطور أحداث العلاقات بين المغرب والجزائر. وبما أنه لا يحتاج تأشيرة إلى زيارة المغرب، جاء لكي يرى الأجواء العامة في البلاد، وطلب مني أن أقترح عليه أكاديميين مغاربة متخصصين في العلاقات الدولية لكي يتحدث إليهم في الموضوع ويعرف منهم وجهة نظرهم وأيضا الرواية الرسمية والأسباب الحقيقية للتوتر.
في المقابل، حكى لي عن «المعاناة» التي واجهته عندما أراد الحديث إلى الجانب الجزائري. كان عليه أن يضع طلبا للتأشيرة لكي يزور الجزائر. واتصلوا به من السفارة لكي يقدم لهم معلومات دقيقة جدا عن سبب رغبته في زيارة الجزائر، وطلبوا منه سيرته الذاتية. وفي المرة الأخيرة طلبوا منه نماذج لمقالاته الصحافية، وأحضرها لهم باللغة اليابانية وأخذوها منه! رغم أنها في مجملها كانت مقالات عن الشأن الياباني ولا علاقة لها بالجزائر، إلا أنهم كانوا متمسكين جدا بضرورة تقديمه نماذج لمقالاته الصحافية قبل أن يمنحوه التأشيرة. وفي الأخير قرر هذا الصحافي ألا يزور الجزائر، وأن يكتفي بمطالعة ما يُكتب عن الشأن الداخلي في الجزائر في الوكالات الدولية. إذ أن بعض المسؤولين الجزائريين، بينهم معالي السفير وأكاديميون رفضوا الحديث معه عن الحراك الجزائري وعن الأزمة مع المغرب والوضع في الصحراء المغربية وحقيقة ما يقع في مخيمات تندوف بل هناك أستاذ في باريس، تواصل معه هاتفيا فقط، وعندما أرسل له محاور المقابلة التي يريد إجراءها معه، اعتذر منه وطلب منه ألا يتصل به مرة أخرى.
بالنسبة لهذا الصحافي الياباني فالأمر محسوم سلفا. لا يمكن أن يكون الجزائريون أصحاب قضية في هذا النزاع بما أنهم يتصرفون بهذه الطريقة. في المقابل، كل الوكالات العالمية تناقلت مضامين الخطاب الملكي الذي أعلن فيه المغرب رسميا عن استعداده لبدء صفحة جديدة مع الجزائر وطي الخلافات، وكل المسؤولين الجزائريين الذين حاولَ الحديث إليهم رفضوا التعليق ومارسوا سياسة الرأس المدفون في الرمل.
لكن المثير في الموضوع ككل، أن «هيرومي» حاول تغطية الانتخابات الجزائرية التي تلت الحراك، وكان عليه أن يملأ الاستمارات ويودع طلب الحصول على التأشيرة. وتعمد الجزائريون عدم إصدار تأشيرة وترخيص لتغطية الانتخابات إلا بعد انتهائها، وهذا الأمر لوحده كان كافيا لكي يعرف الصحافيون الأجانب، وليس اليابانيين وحدهم، طبيعة النظام الذي يتعاملون معه.
من الملفات المهمة التي ركزت عليها هذه الصحيفة اليابانية، موضوع الفلاحين المغاربة الذين طلبت منهم السلطات الجزائرية عدم استغلال أراضيهم نواحي منطقة «فكيك» المتاخمة للحدود الشرقية بين المغرب والجزائر. والتي توجد وثائق أرشيفها والاتفاقيات المتعلقة بها، في أرشيف الأمم المتحدة. هذا الملف الذي برز في إطار التصعيد الجزائري غير المبرر، والذي لا يستند على أي أساس قانوني.
«هيرومي» عاد هذه المرة إلى اليابان وهو أكثر اقتناعا أن الرحلة إلى الجزائر، إن كُتب له يوما أن يدخلها، لن تستحق حتى ثمن التذكرة.
مثل هذه التجارب الصحافية الميدانية، هي التي تجعل الدول تربح القضايا، وتخسرها أيضا. وكل دولة ليست لديها قضية، تكتفي بوضع السياج على حدودها، ولا تسمح لأحد بالدخول، حتى لا يطلع على خلطة صناعة الكذب.