التاريخ المنسي للحرائق وموجات الحر
مواسم صيف قاسية وأخرى «لا تُنسى» من القرن 19:
«مشاهد احتراق الأراضي وارتفاع درجات الحرارة إلى مستويات قياسية، كلها مشاهد مألوفة في المغرب وتتكرر باختلاف المواسم، وتتحد في السياق. أرخ الأجانب الذين عاشوا في المغرب لأحداث «ساخنة»، منذ بداية القرن 19 وصولا إلى مرحلة ما قبل الاستقلال، خصوصا صيف سنة 1953 الذي نفي فيه السلطان محمد بن يوسف، واندلعت الحرائق في حقول الفرنسيين واحتار «البوليس» بين نسبها للخلايا السرية للمقاومة، أم إلى الشمس الحارقة التي جعلت من ذلك الصيف استثنائيا.
مواسم صيف مغربية ارتبطت بأحداث كثيرة، وجل المؤلفات الأجنبية، خصوصا المذكرات، تناولتها بحسب شخصيات كُتابها وانطباعاتهم عن مغرب «انقرض»، لكن حرارته ما زالت تحافظ على إيقاع ارتفاع مهول لدرجات الحرارة..».
يونس جنوحي
عندما أخر الصيف القائظ معارك الجيش الفرنسي بالجنوب سنة 1923
عندما كان الجنرالات الفرنسيون الذين كانوا وراء انتصارات فرنسا في الحرب العالمية الأولى يضعون أقدامهم في جنوب المغرب منذ سنة 1914، أمثال الجنرال «داماد»، انتبهوا إلى أن جنود فرنسا كانوا معتادين على قساوة الجو وسبق لأغلبهم القتال وسط الثلوج في درجات حرارة تحت الصفر بكثير، لكنهم لم يسبق لهم أبدا المشي تحت حرارة تتجاوز 40 درجة مئوية وشمس قائظة «تكسر الحجارة»، كما يقول الفرنسيون مجازا. وهكذا تقرر أن تتوقف عمليات التقدم في نواحي الأطلس مبكرا مع بداية الصيف، حتى لا يُقاتل الجنود الفرنسيون ضد القبائل الثائرة على فرنسا.
أحد الذين عاشوا هذه الأجواء، الصحافي والملحق العسكري الفرنسي «غوستاف بابين»، والذي تحدث في مذكراته عن انخراطه في هذا المنصب العسكري قادما من مهنة الصحافة: «بالنسبة إلي، فإن قرار الانخراط في هذه العملية العسكرية جاء بناء على رغبة لم أستطع مقاومتها لاكتشاف تلك الأرض الغامضة. هذه الرغبة وهذا الفضول تملكني طوال حياتي، تنضاف إلى ذلك تجربة 35 سنة في الصحافة. بالنسبة إلي فإن منطقة «واويزرت» كانت في الواقع منطقة غير مُكتشفة ولم يُزل عنها اللثام بعد، والتي لم يصل إليها أي فرنسي أو «نصراني» قبلنا سوى شارل دو فوكولت، والذي لم يصل إليها إلا متخفيا ومتنكرا في زي محلي».
بابين كتب عن صيف 1923 يقول:
«العملية العسكرية التي أوصلت العلم الفرنسي إلى منطقة واويزرت في 26 شتنبر 1922، لم تكن إلا نقطة في البرنامج الذي وضعه المارشال ليوطي ووافقت عليه الحكومة ليكون في ثلاث حملات، مع نهاية 1923، لتحقيق تركيبة «المغرب النافع». لم تكن هذه التركيبة ممكنة التطبيق، حسب التوقعات، إلا في سنة 1923.
مجموعة من الظروف التي يمكن اعتبارها ملائمة، هي التي تحكمت في تقرير من سيتولى القيادة العسكرية في المغرب، لتحريك الأمور واستغلال التراجع لتحقيق تقدم حول ملوية العليا. وهذا من أجل جعل القوات العسكرية الفرنسية تقوم بقفزات إلى الأمام في اتجاه الأطلس. (..) كان هذا الانتصار مصدرا للفخر ومصدرا للسعادة، ينضاف إلى الأحداث التي شهدناها في الشمال الشرقي أمام قبائل آيت تسغوشن، والتي كللت العملية العسكرية لسنة 1922.
لقد اتخذت قرار مواصلة الطريق في هذه البعثة العسكرية الشجاعة، والتي كان مخططا ألا تمتد لأكثر من ثلاثة أسابيع. شهرا، أو إلى بداية الصيف على أبعد تقدير. والتي امتدت لدواعي الضرورة إلى اقتراب فصل الشتاء».
وفعلا تم الأمر وفق المخطط، إذ تم تأجيل كل العمليات العسكرية المهمة في الجنوب المغربي نواحي ورزازات إلى ما بعد فصل الصيف، وهو ما جعل الجيش الفرنسي يدخل في ما يشبه عطلة موسمية، ولو أن فرنسا واجهت القبائل الثائرة ضد الوجود الأجنبي في المغرب، لكان مصيرها الهزيمة بكل تأكيد، لأن جنودها لم يكونوا قادرين على القتال صيفا، بينما كانوا قادرين على إحراز التقدم في الشتاء، لأنهم كانوا معتادين على درجات برودة تفوق بكثير مواسم البرد القارس بين الجبال نواحي الأطلس.
لكن هذا لم يمنع القبائل من مهاجمة وحدات الجيش الفرنسي، إذ إن بطولات القبائل المغربية في الأطلس، تشهد أن الجيش الفرنسي تعرض في عز الصيف لغارات على الثكنات والوحدات التي كان يحتمي بها الفرنسيون، وحجزت القبائل على مخازن للذخيرة والمتفجرات استعملوها لاحقا ضد الجيش الفرنسي، وهو ما كان ضربة موجعة لفرنسا في شتنبر الذي تلا تلك الأحداث، وصنع انتصارات محلية زادت من حدة المقاومة في الأطلس.
جثث متحللة وجفاف وأمراض جلدية.. هكذا كتب الأجانب عن صيف القرن 19
لم يكن أغلب الأجانب الذين زاروا المغرب، رغم إعجابهم بجوانب كثيرة من حياة المغاربة، يدخرون جهدا في نقل أجواء «كارثية» من صيف المغرب، خلال القرن التاسع عشر.
أحد هؤلاء الأجانب الذين كتبوا بإعجاب عن المغرب، لكنهم انتقدوا موسم الصيف واعتبروه الأكثر قسوة في حياتهم، وأبانوا أنهم لم يطيقوا تلك الأجواء، حيث يختلط ارتفاع درجات الحرارة إلى مستويات قياسية مع تردي الأوضاع الصحية، خصوصا المجاري والصرف الصحي، حيث كان الأجانب يتذمرون في الغالب من هذا الجانب، هو القنصل الأمريكي السابق في المغرب سنة 1909، وهو السيد إدموند هولت. فقد كتب في مذكراته «المغرب العجيب»، ما يلي:
«تسع ساعات للوصول إلى طنجة، ومنظر البحر يُنسي التعب. لقد كان الأمر مضحكا عندما أخبروني أن الفترة التي اخترتها للرحلة، طيلة الأسبوعين، كانت الأكثر حرارة في الشمال، خلال السنوات العشرين الأخيرة. لقد اخترنا توقيتا جيدا للرحلة!».
هذا «التوقيت الجيد» سوف يظهر أنه كان مصدر متاعب كثيرة للقنصل ومن معه، فقد كان ارتفاع درجات الحرارة في شمال المغرب قياسيا، ونتج عنه مضاعفات صحية في صفوف أجانب كانوا يقيمون في طنجة الدولية.
أثنى السيد «هولت» على الشاي المغربي الساخن، واعتبر أنه إحدى الوسائل المهمة التي يقاوم بها المغاربة حرارة الصيف، رغم أنه مشروب ساخن لا يُشرب إلا عندما يصل إلى درجة الغليان، لكنه يمنح انتعاشا بعد شربه ويعين على تحمل درجات الحرارة المرتفعة.
لم يفت هولت أيضا أن يتحدث عن الحرائق التي عرفتها بعض الأراضي نواحي الشمال في تلك السنة، بسبب الارتفاع الكبير لدرجات الحرارة، وأيضا بسبب بعض المكائد بين القبائل التي كانت تصارع بعضها البعض من أجل توسيع النفوذ على الأراضي الفلاحية، فتستغل مواسم ارتفاع درجات الحرارة، وتناول ذكرياته مع صيف المغرب وليال الاحتفالات التي كان ينظمها الدبلوماسيون الأجانب في مدينة طنجة الدولية وقتها، بكثير من الحماس.
لكن تجارب أخرى، كما سوف نرى في هذا الملف، كان صيفها المغربي مختلفا تماما وارتبط بالمتاعب والمعاناة مع درجات الحرارة المرتفعة من جهة، ومع تردي الأوضاع الصحية وحتى الاجتماعية من جهة أخرى.
غشت 1907.. حرارة غير عادية أودت بحياة أجنبي نواحي فاس
رغم أن أعداد الأطباء الذين زاروا المغرب أو أقاموا به خلال القرنين 19 و20 يعدون بالمئات، إلا أنه لا توجد معلومات تؤكد وجود حالات وفيات جماعية في صفوف الأوروبيين بسبب موجة الحر الشديد في المغرب، ترقى إلى مستوى «الكارثة»، سيما في مدينتي فاس ومراكش المعروفتين بمواسم صيف غير اعتيادية.
لكن هذا لا يعني انعدام وجود حالات وفيات وإغماء في صفوف الأجانب بسبب الطقس القاسي، خصوصا في فترة ما قبل الحماية الفرنسية. إذ إن الأجانب الذين زاروا المدينتين المذكورتين آنفا، سيما الفرنسيين والبريطانيين، سجلوا حوادث متفرقة لوفيات شخصيات أجنبية، إما كانوا موظفين في بعض البعثات أو الشركات، أو مواطنين أوروبيين عاديين كانوا يزورون المغرب، ولم تسعفهم حالتهم الصحية في تحمل درجات الحرارة المرتفعة.
كانت أخبار «ضربة شمس» تنتشر في الصحف الأجنبية الصادرة من المغرب، حيث كانت تُسجل حالات إغماء وانتشار للأمراض الجلدية في صفوف الأجانب، بسبب ارتفاع درجات الحرارة.
وقد جاء في أرشيف صحيفة «التايمز» أن صيف مدينة فاس سنة 1907 كان كارثيا بالنسبة لوفد من السياح البريطانيين، الذين كانوا يقومون برحلة استكشافية في المغرب. وقد جاء في المقال الذي تناول أحداث من شهري يوليوز وغشت من تلك السنة، أن الأجانب أثنوا على عبقرية المهندسين المغاربة القدامى، عندما اكتشفوا أن المنازل صممت لتقاوم درجات الحرارة المرتفعة، بنظام تهوية محلي وتقليدي، وجدران عازلة للحرارة، وأسقف تمتص حرارة الصيف القائظة. لكنهم اعتبروا أن نظام المجاري والآبار كارثي بكل المقاييس، إذ إن ارتفاع درجات الحرارة يجعلها تحمل الأوبئة الخطيرة بسهولة إلى المنازل وتنشرها بسرعة، مسببة كوارث صحية بين المغاربة، الذين لم يكونوا وقتها قد تعرفوا بعد على أي لقاح ضد تلك الأمراض.
هؤلاء الأجانب أشاروا أيضا إلى وجود حيوانات نافقة في الأزقة، وهو ما نُشر في مقال «التايمز»، في درجات حرارة تتجاوز 40 درجة مئوية، وهو ما يعني أن تلك الحيوانات كانت تتحلل بسرعة كبيرة وتساهم الحرارة في تحللها، وهو ما جعل حياة أولئك الأجانب في خطر. إلى درجة أن بعضهم قرروا مغادرة فاس فورا، عندما اكتشفوا أن مجرى المياه القادمة صوب المدينة عبر نظام «السقايات»، كانت تلقى فيه جثث حيوانات ماتت بسبب ارتفاع درجات الحرارة وبسبب الهزال، وهو ما يجعلهم عرضة للإصابة بالكوليرا، فور شربهم من تلك المياه. وهكذا قرروا الرحيل عن فاس والاستقرار في نواحي المدينة، لاستكشاف الحقول المحيطة بها. لكن ما حدث أن أربعة سياح بريطانيين ضلوا طريقهم وسط القيظ، ومشوا لمسافة طويلة وأصيبوا بضربة شمس، توفي على إثرها واحد منهم، بينما نجا الثلاثة الآخرون وعادوا إلى فاس، لكي يرووا ما وقع لبقية الفريق الاستكشافي.
كثرت الرحلات الاستكشافية إلى المغرب في ذلك الوقت، وقام سياح أجانب، خصوصا الفرنسيين والبريطانيين، بإعداد ما عرف وقتها بـ«الدليل السياحي»، حيث كانوا يقترحون على مواطني الجنسيات الأوروبية أفضل الوجهات الاستكشافية في المغرب، خلال القرن 19 وبداية القرن 20، وكانوا يحذرون من مواسم الصيف في المناطق الداخلية، سيما في فاس ومراكش، حيث كانت الحرارة تصل إلى درجات قياسية لم يجربها الأوروبيون في حياتهم.
موجة القيظ التي كشفت عملية سرقة للآثار المغربية سنة 1935
جاء في الكتيب السنوي للأحداث المحلية، وهي دورية كانت تُنشر في فرنسا قبل الحرب العالمية الثانية، أن مدينة طنجة المغربية عرفت حدثا مهما في صيف سنة 1935، والمتمثل في وفاة مواطن فرنسي مع اثنين من مساعديه، وهما من جنسية أوروبية، اختناقا في نفق تحت الأرض، بسبب ارتفاع درجات الحرارة تلك السنة.
والسبب أن هذا الفرنسي الذي كان عمره يناهز 59 سنة، والذي لم يذكر اسمه في المقال، كان يعاني من ضيق في التنفس، لكنه كان يشتغل في التنقيب عن الآثار والتحف، وكان قد توجه إلى طنجة عندما نشرت الصحافة الفرنسية أخبارا عن عثور فريق استكشافي فرنسي على تماثيل في طنجة تعود إلى الحقبة الرومانية، وهو ما جعله ينطلق رأسا إلى هناك للبحث بدوره عن مواقع أثرية جديدة، سيما وأن مجلات فرنسية كثيرة تناولت هذا الموضوع، وهو ما يؤكده الباحث المغربي عبد العزيز خلوق التمسماني في أعداد مجلة «الطنجيون»، حيث تناول حقيقة وتاريخ عمليات التنقيب الفرنسي عن الآثار في أقبية طنجة ودهاليزها في مقال علمي.
بالعودة إلى الموضوع فإن المواطن الفرنسي حل فعلا في طنجة مع بداية موسم الصيف، وانشغل بالتنقيب في الأماكن الأثرية التي كانت وقتها ما زالت تحمل أطلال الوجود الروماني، واستعان بحفارين مغاربة لكي ينجزوا عمليات الحفر تحت الأرض. وهذه العملية كانت تتم بشكل عشوائي، ونتج عنها إتلاف مواقع أثرية ونهب أعداد كبيرة من الآثار التي تؤرخ للوجود الروماني في شمال المغرب.
وبينما كان هذا المواطن الفرنسي رفقة مساعديه الاثنين يستكشفون نفقا صغيرا اكتشفه الحفارون المغاربة بالصدفة عندما كانوا بصدد الحفر، علقوا ثلاثتهم في الخندق الذي كان يعود إلى الحضارة الرومانية في منطقة القصبة، حيث كان معروفا أن الأكسجين يقل في تلك الأقبية التاريخية، بالإضافة إلى أن درجة الحرارة كانت مرتفعة جدا.
شكلت وفاة المواطنين الأوروبيين الثلاثة حدثا مهما في طنجة الدولية، حيث جرى انتشال الجثث وانتشرت بعض الإشاعات تقول إن وفاتهم كانت بسبب الاختناق، نظرا لارتفاع درجات الحرارة، رغم أن الأقبية الرومانية كانت ملجأ لأبناء المدينة، خلال الصيف، لاتقاء درجات الحرارة المرتفعة في الأعلى. لكن ضيق مساحتها وعدم وصول الهواء إليها كانا سببين إضافيين في الوفاة، بالإضافة إلى أن المواطنين الثلاثة كانوا غير معتادين على صيف المغرب، وعلى درجات الحرارة المرتفعة.
عرى الحادث وجود عمليات سرقة للآثار المغربية، لكن بحكم سياق طنجة الدولية وقتها، لم يحظ الموضوع بما يليق به من اهتمام، رغم أن أكاديميين مغاربة أثاروا الموضوع في السنوات الأخيرة، وطالبوا بالكشف عن مصير الآثار المغربية التي جرى التنقيب عنها، خلال فترة الحماية وما قبلها أيضا.
وزير بريطاني انتظر تحت شمس صيف فاس الحارقة لساعات لكي يستقبله الحسن الأول
في كتابه «أرض سلطان إفريقي» يفرد الصحافي البريطاني والتر هاريس، الذي زار المغرب أيام المولى الحسن الأول، وأصبح لاحقا صديقا للمولى عبد العزيز وقضى ما تبقى من حياته في المغرب وأوصى أن يُدفن فيه، وقائع من صيف فترة سنة 1887م، حيث زار مدينة فاس رفقة وزير بريطاني وزوجته ووفد من دبلوماسيين بريطانيين جرى استقبالهم من طرف المولى الحسن الأول في القصر الملكي بفاس. وكانت تلك الزيارة متزامنة مع صيف استثنائي وصلت فيه درجات الحرارة إلى مستوى قياسي، حيث كان الطبيب المرافق للوفد، قلقا على صحة زوجة الوزير.
جاء في «أرض سلطان إفريقي»، ويقصد السلطان المولى الحسن الأول: «مُنحت لنا ثلاثة أيام، قبل بدء أي مفاوضات أو عمل، لكي نرتاح داخل القصر الملكي لاستعادة عافيتنا وراحتنا، جراء رحلتنا المتعبة والساخنة.
ولم يتم استقبالنا من طرف السلطان إلا في يوم الأربعاء.
تم إخبارنا منذ اليوم الأول لوصولنا إلى المدينة، أن جلالته سيكون سعيدا جدا باستقبالنا في ذلك اليوم. لذلك قضينا يوم الاثنين والثلاثاء في تجهيز لباسنا الرسمي، وتلميع الأحذية والسيوف.
كانا يومين ممتعين كفاية. قضينا أغلب الوقت خلالهما في الاستمتاع بظلال الحديقة، حيث كنا في الحقيقة نُقيم. إذ لم نكن فقط نجلس تحت الأشجار، بل كنا نأخذ كل وجباتنا ومشروباتنا إلى الهواء الطلق.
لكن جاء يوم الأربعاء بصخبه وإثارته.
استيقظنا صباحا مبكرا، لأن موعد الاستقبال الذي أبلغنا به حُدد قرابة الثامنة صباحا، حتى نتجنب الحرارة الشديدة خلال النهار وشمس الظهيرة.
قبل أن نتجه إلى «القبة الصغيرة»، حيث كان مقررا أن تتم مراسيم الاستقبال، قدم لنا فطور خفيف، وقبل الثامنة صباحا بربع ساعة ركبنا على ظهر الخيول. كان المنظر في الحديقة مبهرا، كان مشهد أشجار الزيتون يبدو مختلفا عن منظر اليومين اللذين قضيناهما في الحديقة. كما أنها كانت تغص بالرجال المسلحين، ليس فقط الذين أعطيناهم لباس الحرب لدينا، بل أيضا بعض المغاربة الذين كانت مهمتهم خفر موكبنا إلى لقاء السلطان.
(..) طلب منا أن نقف في صف طويل، كان الوزير أمامنا على بُعد خطوات. يحمل في يده رسائل الاعتماد الملفوفة بعناية في غطاء حريري جميل.
أمامنا على بعد حوالي مائة ياردة من جدار الساحة، كانت هناك طريق تؤدي إلى الباب الكبير الأخضر، وهو المُفضي إلى قلب القصر. وهو نموذج على المعمار المغربي (..)، كان لدينا الوقت الكافي لتأمل الأرجاء حولنا قبل أن تبدأ مراسيم ذلك اليوم. ووصلنا جميعا إلى هذه الخلاصة: عليك احترام المغاربة مهما كانت الظروف، وسوف تأمن العواقب مهما كانت (..).
ما إن دخل الموكب الملكي إلى القاعة، حتى صاحت قوات الجنود في الأرجاء: «أطال الله عمر السلطان. نصر الله السلطان». كانت شعارات جميلة تنبعث من حناجر أزيد من مائتي رجل.
ما إن اقترب السلطان، حتى أصبح المجندون الذين ذكرتهم في الأعلى، بيننا وبين القصر. قاموا جميعا بالركوع وصاحوا معلنين ظهور السلطان. ثم فجأة استداروا نحونا وبدؤوا ينتشرون في كل الاتجاهات. كان مجرد ظهور السلطان يبعث الرهبة.
اقترب السلطان وتحدث إلى الوزير ويليام، الذي تم تقديمه إلى السلطان بصوت أحد المخزنيين الذي صاح: «سفير ملكة بريطانيا».
رحب به جلالة السلطان ببضع كلمات، ورد الوزير ببعض عبارات المجاملة. وبعده أشار السلطان إلى أنه «يأمل أن تمتد العلاقات الأخوية بين المملكة المغربية ومملكة بريطانيا وتتواصل». عندما انتهى معالي الوزير من خطابه، تكلم السلطان وقال إنه يتمنى أن رحلتنا إلى قصره قد كانت ممتعة. وأننا وجدنا كل شيء مُرضيا. ثم طلب أن يتم تقديم أعضاء الوفد إليه. وتقدمنا نحوه على انفراد بالدور.
وعندما انتهى تقديمنا إلى السلطان واحدا واحدا، تم إحضار «المهور» الصغيرة، وقد لاقت استحسانا كبيرا، لأنها كانت غير معروفة عند المغاربة، ولم يكونوا معتادين على ضآلة حجمها.
كان السلطان قد عبر عن إعجابه بلباس «كوتسي» الألباني، أعجب به إعجابا كبيرا، لأنه لم يره من قبل. وسأل أسئلة عن أصله وجنسيته. وبعدها قام بوداعنا وشكرنا على الهدية، واستدار عائدا إلى داخل القصر. وبعد دقائق قليلة قضيناها في الدردشة مع الموظفين الرسميين في القصر، انضمت إلينا النساء اللواتي تابعن المراسيم من بعيد، وسط فوضى من ضجيج الأبواق التي كانت تعزف أثناء طقوس الاستقبال، وارتحن عندما وصلن إلى الظلال الباردة لحديقة القصر».
لكن المثير أن الصحافة البريطانية في ذلك الوقت، كما ورد في التعليق على كتاب «أرض سلطان إفريقي» بعد سنوات على صدوره، هاجمت المغرب وروجت أن السلطان تعمد إبقاء الوفد الوزاري تحت شمس الصيف القائظة، وكرر العملية نفسها مع وفود رسمية بريطانية أخرى، حاولت زيارة المولى الحسن الأول لإبرام اتفاقيات ومعاهدات مع المغرب، وهو ما جعل المفوضية البريطانية التي كان مقرها في مدينة طنجة، تتجنب في وقت لاحق فتح أي تواصل مباشر مع المولى الحسن الأول، وتزعم هذه المقالات التي علقت على الكتاب أن المولى الحسن الأول لم يكن مرحبا باستقبال البريطانيين، وأنه تعمد تركهم في الحرارة المرتفعة مع ما تسببه ضربات الشمس من مضاعفات للمغاربة والأجانب أيضا.
صيف 1953 الذي زادته أحداث «المنفى» حرارة
موسم صيف السنة التي نفي فيها السلطان محمد بن يوسف إلى مدغشقر لم يكن ليُنسى سريعا، خصوصا للشباب المغاربة الذين كانوا متحمسين للحركة الوطنية وأفكارها. إذ إن ارتفاع درجات الحرارة في تلك السنة، لم يمنع هؤلاء الشباب من التصعيد في وجه الفرنسيين، حيث انطلق فتيل المقاومة المسلحة والتنظيمات السرية، وأعلن وقتها عن انطلاق «الكفاح المسلح»، ردا على قيام فرنسا بنفي السلطان الشرعي.
لكن أهم ما بصم صيف سنة 1953، موجات الحرائق التي التهمت بعض التجمعات السكنية، سيما الأحياء العشوائية التي بدأت وقتها في الانتشار في ضواحي المدن التي بناها الفرنسيون مثل الدار البيضاء والرباط، والأحياء الجديدة في فاس ومكناس ومراكش وأكادير. إذ إن المغاربة النازحين من القرى بسبب موجات الجفاف، قرروا الاستقرار في أحياء عشوائية وصفيحية على هوامش المدن والأحياء التي بناها الفرنسيون، وكان ذلك أول ظهور للأحياء الصفيحية في المغرب.
وخلال صيف تلك السنة العصيبة، تكررت حوادث حرائق في هذه الأحياء وتضاربت الأقاويل بشأن كونها مدبرة عمدا من طرف أعوان الحماية الفرنسية، بينما ذهبت أطراف أخرى إلى إلصاق التهمة بأعضاء الخلايا السرية للمقاومة.
ارتفاع درجات الحرارة زاد من وطأته ارتفاع في حالات الحرائق، التي عرفتها الضيعات الفلاحية المملوكة للأجانب. إذ إن أرشيف محاضر البوليس الفرنسي لشهري غشت وشتنبر 1953، حيث كانت درجات الحرارة ما زالت مرتفعة، يؤرخ لوجود حوادث اندلاع حرائق في ضيعات فلاحية، خصوصا نواحي القنيطرة، الدار البيضاء والجديدة، مملوكة للفرنسيين.
ورغم أن البوليس الفرنسي من خلال التحريات والتحقيقات لم يجد ما يُدين الخلايا السرية للمقاومة، إلا أن التهمة ظلت تلاحق الشباب المغاربة، وجرت عمليات اعتقال واسعة في صفوف الشبان بحثا عن المشتبه في إضرامهم النيران في الضيعات، رغم أنه لم يكن مستبعدا أن تكون درجات الحرارة المرتفعة هي السبب وراء انتشار تلك الحرائق، خصوصا وأن حوادث حريق في الضيعات الفلاحية المملوكة للفرنسيين، بسبب ارتفاع درجات الحرارة، كانت تُسجل سنويا في المغرب، قبل سنوات عن واقعة نفي السلطان محمد بن يوسف. لكن الإدارة الفرنسية ظلت متمسكة بالبحث عن المتورطين المغاربة، ووسعت دائرة الاعتقالات والإحالة على المحاكمات، وهو ما جعل البلاد تعيش على صفيح ساخن، سيما وأن صيف السنة الموالية، أي 1954، عرف عمليات إعدام سريعة لمئات الشباب المغاربة الذين كانوا مسجونين في السجن المركزي للقنيطرة.