شوف تشوف

الرئيسيةملف التاريخ

التاريخ المنسي لـ«الترمضينة»

هكذا صام أجدادنا خلال الحرب وأيام الاستعمار

«طيلة قرنين من الزمن، كان رمضان يشغل بال الأجانب الذين جاؤوا إلى المغرب، أو كانوا يحلمون بالمجيء إليه. قبل الحماية الفرنسية وأثناءها، كان رمضان طقسا يؤرق الفرنسيين على وجه الخصوص،

شهر عاش خلاله المغاربة أحداثا مفصلية. بعض الكتابات الأجنبية حاولت تصوير المغاربة الصائمين، كما لو أنهم جحافل غاضبة، بسبب الامتناع عن الأكل والشرب، من هناك بدأت ظاهرة «الترمضينة». إلى أي حد إذن كانت مسألة العنف في رمضان مرتبطة بالصيام؟ أم أن الأحداث العصيبة، خصوصا خلال فترة عام البون، التي عاشها المغاربة وأثرت على حياتهم اليومية، كانت وراء الأحداث التي جرى بعضها خلال شهر الصيام، واستغلتها سلطات الحماية لكي تصور المغاربة على أنهم شعب لا يتحكم في تصرفاته، خلال الشهر الفضيل».

 

هل فعلا كان أجدادنا عنيفين خلال شهر الصيام؟

حاول الاستعماريون في كتاباتهم وأرشيفهم تقديم المغاربة على أنهم شعب غير متسامح، عندما يتعلق الأمر بصوم رمضان.

بل إن بعض الكتابات قدمت رمضان على أنه شهر خطير من الناحية الأمنية، كما لو أن المغاربة كانوا يفقدون السيطرة على أعصابهم، خلال شهر الصيام.

المقيم العام الفرنسي ليوطي، الذي كان أول فرنسي يشغل منصب المقيم العام في المغرب، أيام المولى يوسف، ثم اشتغل أيضا مع السلطان محمد بن يوسف، سبق له أن كتب مرة متحدثا عن تجربته في المغرب، حيث قال إنه استطاع فهم المغرب والمغاربة، بفضل محاولاته لفهم الإسلام.

وربما كان هذا سبب سعيه وراء تطبيق قانون ينظم العلاقة، بين الفرنسيين والمغاربة المسلمين، خلال شهر الصيام، لكنه بالغ في الأمر بسن القانون الشهير بتجريم الإفطار في الشارع العام. ناسيا أن المغاربة كانوا متعايشين مع اليهود لمئات السنين، ولم يكن أي قانون لتنظيم العلاقة بين الطرفين، مطروحا للنقاش.

هذا القانون ولد الكثير من الحساسيات، بين المغاربة والفرنسيين، ونسي المقيم العام أن مشكلة الوطنيين المغاربة مع الفرنسيين لم تكن تتعلق برمضان، وإنما أساسا بالوجود الفرنسي في المغرب.

نعود هنا إلى شهادة نادرة تتعلق بـ«الترمضينة» المغربية، قبل الحماية الفرنسية. وتتعلق بمضامين مذكرات الصحافي البريطالي «لاورنس هاريس»، الذي كان أول أجنبي يلتقي بالسلطان المولى عبد الحفيظ بعد وصوله إلى السلطة، حيث أصدر سنة 1909 مذكرات تناول فيها رحلته إلى المغرب ومشاهداته، ومنها بعض ذكرياته مع شهر رمضان، والذي صادف دخوله مع وصوله إلى مدينة العرائش قادما إليها من طنجة، في اتجاه فاس، حيث كان مقررا أن يلتقي السلطان مولاي عبد الحفيظ سنة 1908، والتي تزامن شهر رمضان فيها مع نهاية شهر غشت، حيث عرفت مدينة فاس حرارة غير مسبوقة.

يقول هذا الصحافي مستحضرا أجواء علمه لأول مرة بطقوس شهر رمضان في المغرب: «استسلمت لنوم عميق، ولم أستيقظ إلا على ضجيج وأصوات انفجارات. انطلقت إلى خارج الخيمة مع «هاردويك» في فزع، لنفاجأ بأن الخدم والحراس كلهم نائمون، ولم يفلح دوي الانفجارات المتلاحقة في إيقاظهم. طلقات مدفعية مدوية تنبعث من مدافع نحاسية، تعود إلى حقبة البرتغاليين. استيقظ الحاج بعد أن أيقظته بضربات متلاحقة، وسألته عن سر هذه الانفجارات وضجيجها. «هل هي حرب؟ هل قتلوا الحاكم، أم قتلوا اليهود والنصارى؟ ما هذا بالضبط؟».

بعد أن تثاءب في كسل واضح قال: «إنها بداية رمضان»، لم يزد حرفا على ما قال، وانقلب على الجانب الآخر ليعود إلى النوم مجددا. عدت إلى مكاني أنا و«هاردويك» أشرح له كيف أن رمضان شهر يصوم فيه المسلمون، عملا بما كان يقوم به النبي محمد. وكيف أنهم يمتنعون عن الأكل والشرب من طلوع الشمس إلى غروبها، طيلة شهر كامل. وما الانفجارات التي سمعناها إلا طريقة متعارف عليها للترحيب بقدوم هذا الشهر.

أخبرته أيضا عن «النفار» الذي يصعد إلى صومعة المسجد، في الثانية صباحا معلنا عن بداية السحور، و«الدقايقي» الذي يتجول في الشوارع بطبل صغير، ليوقظ الناس للأكل قبل بداية الصوم، وآخر يقوم بطرق أبواب المنازل، ليتأكد من استيقاظ الناس. ومضيت أشرح له طقوس الشهر ككل، لأكتشف في الأخير أنني أضعت وقتي في الشرح، لأنه كان قد استسلم للنوم.

تعتبر فترة الصيام في رمضان من أخطر الفترات بالمغرب، لأنه يؤدي إلى تأجيج التعصب والفوضى».

فهل فعلا كان رمضان، شهر تعصب وفوضى بين المغاربة، خلال زمن السيبة؟

 

المنفى يقبر محاولة أمريكي تصوير أجواء رمضان بالألوان

ربما ما كان أحد ليعرف قصة مخرج الأفلام الوثائقية، الأمريكي كينيدي، لولا أن الصحافية الأمريكية «مارفين هاو» أشارت إليه في مذكراتها التي صدرت سنة 1954، والتي تناولت فيها تجربة عملها الصحافي بالمغرب في «Radio Maroc»، ما بين سنتي 1950 و1954، أي السنة نفسها لعودتها إلى الولايات المتحدة من الرباط، حيث انكبت فور وصولها إلى أمريكا على كتابة مذكراتها عن المغرب، لتنشرها في السنة ذاتها.

تحكي هذه الصحافية الأمريكية قائلة إن السيد كينيدي جاء إلى المغرب، بناء على ما سمعه من حكايات زوجته، وهي أيضا صحافية اشتغلت في الراديو الفرنسي بالعاصمة الرباط، حيث كانت مكلفة بالبث باللغة الإنجليزية، عن احتفالات المغاربة بالمناسبات الدينية، وأراد تصوير أجواء ما كان يعرف وقتها بـ«الهدية» التي كانت تقام لأربعة أيام متتالية، احتفالا برمضان. وكان ذلك آخر رمضان قضاه الملك الراحل محمد الخامس مع أسرته بالمغرب، قبل المنفى.

وبينما كان السيد كينيدي يستعد لدراسة مكان الاحتفال، وتحديد الأماكن التي سوف يقف بالكاميرا فيها لالتقاط مقاطع فيديو لطقوس «الهدية»، بالتنسيق مع موظفين في القصر الملكي، لكي يكون قريبا جدا من منصة الملك الراحل محمد الخامس، فإذا بـ«مارفين» تنقل إليه خبر اعتزام الصدر الأعظم تلاوة خطاب قصير، يخبر فيه المغاربة أن الملك الراحل لن يُحيي تلك الاحتفالات في الرباط، لأسباب صحية، وهكذا ألغي الاحتفال.

كان السيد كينيدي قد أخبر من طرف الجميع بأنه يتعين عليه أن يكون صبورا، لأن احتفالات أخرى قادمة في الطريق، وأنه سوف يصور أجواء «الهدية» على الطقوس المخزنية في مناسبات أخرى بدون شك، سيما وأن إقامته في المغرب كانت مطولة، لأن زوجته كانت تعمل مع «مارفين» في «راديو ماروك».

لكن الخيبة التي أحس بها كانت كبيرة، وهو يطالع خبر نفي الأسرة الملكية، لأنه أضاع فرصة تصوير تلك الطقوس الرمضانية، ولم يكن لديه استشراف مستقبلي عن المدة، التي سوف تقضيها الأسرة الملكية في المنفى.

كان السيد كينيدي ينوي تصوير أفلام وثائقية بالألوان لعدد من الاحتفالات الدينية، لكن خيبته كانت كبيرة بعد دخول المغرب في أجواء المنفى، لأن المغاربة كما هو معروف امتنعوا عن ذبح الأضاحي بوجود ابن عرفة في القصر الملكي، احتجاجا على نفي السلطان محمد بن يوسف.

تنقل الصحافية الأمريكية «مارفين هاو» في مذكراتها، قصة صحافي مغربي عمل لاحقا موظفا في الإقامة العامة الفرنسية، تقول إن اسمه الحاج محمد التمسماني. تحكي «مارفين هاو» عنه قائلة إنه كان من المغاربة القلائل، خلال فترة الخمسينيات، الذين كانوا يتحدثون اللغة الإنجليزية بطلاقة. بالإضافة إلى أنها سجلت معه حلقات في رمضان لـ«راديو ماروك»، كان يعرف فيها الناطقين بالإنجليزية، بمن فيهم الجالية الأمريكية في المغرب على وجه الخصوص، بتعاليم الدين الإسلامي، وكانت تستضيفه فيها «مارفين هاو»، لكي تعرفه بالمستمعين، وتنقل إليه أسئلة حول الإسلام وعادات المغاربة.

المثير في قصة هذا الرجل، كما تقول «مارفين»، أنه خلال اشتغاله في الإعلام، أصبح ناطقا رسميا باسم الإقامة العامة الفرنسية، بل ومثلها في اجتماع بالأمم المتحدة، وترافع عن فرنسا ودافع عنها وأحقيتها في الوجود بالمغرب.

هذه الشهادة كانت كافية لتكون دليلا تاريخيا على أن رمضان في المغرب لم يكن أبدا بالسوء، الذي حاول الفرنسيون تصويره في كتاباتهم الاستعمارية، وأن الأجانب باختلاف جنسياتهم، عاشوا أجواء رمضان بين المغاربة، حتى في الظروف السياسية الحالكة، ولم يفقدوا حياتهم. 

 

عام «البون».. الجوع كاد يشعل حربا أهلية في رمضان/غشت

في رمضان سنة 1945، بدأت بعض الإشاعات تنتشر بين المغاربة في الدار البيضاء، خصوصا في أحياء الصفيح، أو «البراريك» التي تضم آلاف العائلات المغربية النازحة من القرى. هذه الإشاعات مفادها أن تداعيات الحرب العالمية الثانية التي أدت إلى اختفاء أهم المواد الأساسية من السوق، سوف تمتد إلى شهر رمضان، وأن الإدارة الفرنسية تتعمد فعلا إبقاء المواد الأساسية مختفية من الأسواق، حتى لا يجد الصائمون ما يفطرون به خلال الشهر الفضيل. هذه الإشاعات لم تكن مستندة على أي أساس رسمي، أو قرار من الإدارة الفرنسية، بل كانت من الأفكار التي عمل الوطنيون على نشرها بين الناس، لحصد التعاطف مع الوطنيين، سيما وأن رموز الحركة الوطنية من فقهاء ومثقفين، كانوا أيضا في صف الوطنيين، وأعلنوا أن فرنسا تريد فعلا تضييق الخناق على المغاربة، خلال الشهر الفضيل.

لكن الحقيقة أن اختفاء المواد الأساسية من السوق أثر كثيرا على العادات الغذائية ليس في المغرب فحسب، بل في جل دول العالم. بل إن دولا أخرى، من بينها دول أوروبية، عاشت تداعيات أكثر صعوبة عندما لم تجد الحكومات ما تمون به السوق الاستهلاكية، واختفت المواد الأساسية تماما من الأسواق.

تزامن «عام البون» مع موجة جفاف قاسية في المغرب، وهو ما أثر على القرى، حيث سُجلت حالات تلف للمزروعات في القرى المغربية شمالا وجنوبا، ولم يجد الفلاحون ما يخزنونه كعادتهم في المخازن الفلاحية وفي منازل الفلاحين الصغار، وسُجلت حالات نهب داخل بعض الأسواق، وتدخل الجيش الفرنسي لفرض الأمن، خصوصا في القرى المحيطة بتجمعات الفرنسيين الكبرى.

وحسب ما جاء في وثائق أرشيف البوليس الفرنسي، فإن يوم 27 يونيو 1945، سجل أعنف تدخل في حق ثلاث قرى نواحي سوق الأربعاء الغرب، حيث تم استعمال الرصاص الحي لاغتيال مجموعات من رجال القبائل كانوا يشنون غارات على ضيعات فلاحين فرنسيين، وقاموا بـ«نهب» محتويات المخازن من الحبوب والخضروات والفواكه، وسرقوا عددا من قطعان الأبقار. وفي محاضر استنطاق بعض المعتقلين وقتها، جاء في اعترافاتهم بأنهم شنوا تلك الغارات ضد ضيعات المعمرين الفرنسيين، لأنهم كانوا يريدون ملء مخازن الطعام في قراهم التي تعاني من الجفاف والمجاعة، استعدادا لصيام شهر رمضان والذي تزامن تلك السنة مع شهر غشت، حيث كانت درجة الحرارة شديدة، مع تسجيل ندرة كبيرة في المياه والمواد الأساسية، وعلى رأسها الدقيق والشاي والسكر.

كما أن نفوق قطعان كبيرة من المواشي، زاد من تأزيم وضعية الفلاحين، الذين كانوا يراهنون على لحوم المواشي لمواجهة المجاعة الكبرى.

بعد تلك الحادثة عملت قوات الجيش الفرنسي على توزيع حمولة كبيرة من الحبوب بالتساوي على المنازل، بالاستعانة بأعوان السلطة، حيث خصصت ما يكفي لإعداد الخبز، حسب توزيع العائلات، لقضاء شهر رمضان.

 ورغم ذلك تكررت الغارات التي استهدفت ضيعات المعمرين الفرنسيين، الذين اختاروا سابقا أجود الأراضي الفلاحية، واستعملوا معدات عصرية في عمليات الري واستغلال الأراضي، وهو ما جعل تلك الضيعات هدفا للسكان المحليين، الذين كانوا تحت تأثير تداعيات مجاعة تلك السنة.

 

عندما خاف أوائل المعمرين الفرنسيين من شهر الصيام

عندما قصف الفرنسيون الدار البيضاء سنة 1907، كتبوا في صحافتهم أنهم قاموا بتلك العملية العسكرية العنيفة، لإزالة الخطر على الجالية الفرنسية بالمدينة. تسبب القصف في دمار البيضاء بأكملها. لضمان أمن العائلات الفرنسية الأولى التي قطنت في المدينة، وبعد تسجيل حالات اعتداء على بعض الأجانب في الدار البيضاء، قامت فرنسا باستغلال الوضع لمباشرة أعنف عمل عسكري فرنسي في ذلك التاريخ.

ومع سنة 1912، عندما وقعت فرنسا رسميا معاهدة الحماية مع المغرب، استمرت فرنسا في سياستها القائمة على شن الضربات العسكرية العنيفة، لضمان أمن رعاياها في المغرب، لكن هذه المرة، في ظل وجود إدارة فرنسية بالمغرب، كان العمل مزدوجا. إذ إن الإدارة تولت صياغة ترسانة من القوانين أولا، ثم تكلف الجيش الفرنسي بتطبيق «النظام».

كان رمضان أيام المقيم العام ليوطي، من الأمور التي استرعت اهتمام المسؤولين العسكريين والإداريين، في الدار البيضاء والرباط على وجه الخصوص.

إذ إن المدينتين معا كانتا تتوفران على عدد من المقاهي والفنادق والتي شيدها مقاولون فرنسيون، لكن خلال شهر الصيام، تخوف المقيم العام ليوطي من إمكانية خدش رواد تلك الأماكن العمومية من الجالية الفرنسية الأولى في المغرب، للشعور الديني للمسلمين المغاربة، لذلك عمل ليوطي على سن قانون لتنظيم الحياة في نهار رمضان، حتى لا تحصل استفزازات.

لأن السلطات الفرنسية في المغرب، سجلت حالات اعتداء كثيرة على الفرنسيين في نهار رمضان، سيما منهم الذين عمدوا إلى الأكل والشرب في نهار رمضان، داخل أزقة المدن القديمة، مثل فاس ومراكش. لكن ليوطي حاول تعزيز وجود الفرنسيين في المغرب، وبقي مشروعه لوضع قانون لتنظيم صيام رمضان حبيس الرفوف، إلى أن تم تفعيله مع بداية العشرينيات، عندما أرادت الإدارة الفرنسية تنفيذ مخطط أمني في المدن الكبرى، يهدف إلى حماية الرعايا الفرنسيين، وقتها أطلق عليه اسم الفصل 222.

الفصل 222 وُلد في ذهن المقيم العام، واستشار بعض مقربيه لكي يضعوا له تأطيرا قانونيا، يُلزم الفرنسيين بالامتثال له ومعاقبة الذين يخالفونه.

الصحافة الفرنسية في المغرب، وهذا ما لا يعرفه الكثيرون، لعبت دورا كبيرا في خلق جو قانوني مناسب لتفعيل القانون، بصيغة تجعله يحمي الأجانب.

فقد نشرت صحف فرنسية، من بينها «لو بوتي ماروكان» و«السعادة» مقالات تحذر الفرنسيين من مغبة ممارسة حياتهم العادية بين المغاربة، خلال شهر الصيام، وقدمت أخبارا لم يتسن التأكد من صحتها، لتروج لعمليات اعتداء مزعومة تعرض لها فرنسيون، بسبب إقدامهم على تناول الطعام في نهار رمضان، أو محاولة ولوج المقاهي خلال فترة الصوم. وحملتهم الإدارة الفرنسية مسؤولية ما حصل لهم، حسب ما نشرته الجرائد، وجاء ليوطي ليقدم الوصفة السحرية التي تقضي بمنع الإفطار في الأماكن العمومية، خلال ساعات الصيام. كان المحافظون أمثال عبد الحي الكتاني، وثلة من علماء القرويين المتنورين، قد كتبوا رأيهم في الموضوع، لكن الإدارة الفرنسية أحاطته بالتعتيم، لأنها أرادت أن يظهر الشارع المغربي متطرفا، لإضفاء شرعية على القانون الذي دفع به ليوطي.

هؤلاء العلماء، وكانوا قلة من مدرسة عبد الحي الكتاني ممن انفتحوا على الشرق، وقالوا إن الإسلام لا يلزم غير المسلمين بصوم رمضان، وإن الأصل هو احترام الشعائر، وليس تصوير المغاربة كما لو أنهم شعب متشدد لا يقبل التعدد.

وما أغفله قانون ليوطي، هو علاقة المسلمين باليهود، والتي تعود إلى قرون خلت، لم يكن مشكل الإفطار العلني فيها مطروحا، رغم أن علاقة المغاربة المسلمين باليهود مرت بعدد من الامتحانات العسيرة، لكن الصيام لم يكن أحدها نهائيا.

 

رمضان 1956.. حين استقبل محمد الخامس «مُقاتلين» أسرهم جيش التحرير

تداخلت خيوط كثيرة في تاريخ جيش التحرير المغربي، إذ إن تداعيات حملة تسليم أسلحة جيش التحرير، بعد إعلان استقلال المغرب وتوقيع اتفاق الاستقلال مع فرنسا في مارس 1956، أثرت كثيرا على تدوين حقائق تعود إلى تلك الفترة.

والمثير أن بعض قيادات جيش التحرير المغربي، ممن كانت تعتبر العقول المدبرة لعدد من العمليات الفدائية، في أثناء مرحلة نفي الملك الراحل محمد الخامس، وشكلت ضغطا أمنيا كبيرا على فرنسا لتغيير سياساتها في المغرب، رفضت أن تسلم أسلحتها بعد استقلال المغرب، وقررت مواصلة عمليات جيش التحرير في عدد من المناطق، التي كانت ما زالت تعيش تحت سيطرة الجيش الإسباني. ورغم دعوات الملك الراحل محمد الخامس وقيادات وطنية وحزبية إلى ضرورة تسليم أسلحة جيش التحرير، والانخراط في الجيش الوطني، إلا أن أبرز قيادات جيش التحرير قررت حمل السلاح وشن غارات على مناطق النفوذ الإسباني. ومن بينها، نجد المناضل بن حمو وهو أحد رموز جيش التحرير الذين أقبرت سيرتهم لاحقا، بسبب الحسابات السياسية.

هنا، نورد شهادة نادرة جدا في حق المقاوم محمد بن حمو، وتفاصيل عملية تم تنفيذها خلال شهر رمضان سنة 1956، والذي حل في تلك السنة بين شهري أبريل وماي، أي في عز عمليات جيش التحرير في الصحراء وفي المنطقة الشرقية مثل الرشيدية وميدلت، وصولا إلى نواحي تازة، حيث كانت فرق عباس المساعدي ما زالت تحمل السلاح في الجبال.

جاء في شهادة وقعها محمد الأنصاري، يحكي فيها مغامرات المقاوم حسن اليعقوبي، وهو أحد الذين عاشوا تلك الأحداث: «في الأسبوع الأخير من شهر أبريل، غادر السي محمد بن حمو منطقة تافيلالت، وأخذ معه القائد مبارك منار الذي كان نائبا لي (أي للمقاوم حسن اليعقوبي)، دون أن نعرف سبب ذلك، إلا بعد أن عاد بن حمو مرة أخرى في شهر ماي. فعلمنا منه بأنه كُلف من طرف صاحب الجلالة الملك محمد الخامس، وقيادة المقاومة، بالذهاب إلى الجنوب لتكوين جيش التحرير داخل الصحراء، وبأنه سيأخذ منه مجموعة من ضباط وجنود متطوعين، ليجعل منهم أطرا أولى لتسيير الجيش المذكور، ومن بينهم القائد «مبارك منار». فقمت بتسليم كمية كبيرة من الألبسة العسكرية، كنا قد استولينا عليها من أحد المعسكرات بمدينة ميدلت، بعد أن اخترقت فرقة من اللفيف الأجنبي، وتم توقيف العمليات العسكرية التي كان قد أقر السي عبد القادر بوزار، ابتداء من 7 مارس، في بلاغ عسكري القيام بها. فقامت هذه الفرقة بشن هجوم على إحدى فرق جيش التحرير المتمركزة بقرية با محمد شمال فاس، يوم 8 ماي، أي 27 رمضان. فأسر خمسة من جنود العدو، من بينهم سينغاليون وأوروبي مسلم. فتم تقديمهم إلى جلالة الملك محمد الخامس، واعترفوا بأنهم هم الذين بدؤوا الهجوم على مركز جيش التحرير بأمر من رئيسهم الضابط الفرنسي، فوجدناها نحن فرصة لنا فهجمنا على المعسكر المذكور.

أعجب سي محمد بن حمو كثيرا بهذه المبادرة منا، أي تسليمه الألبسة، فشكرنا وودعنا بحرارة. فظل السيد محمد بن حمو يتردد على المنطقة عدة مرات، ولكن من بعيد وكانت آخرها في النصف الثاني من شهر يونيو، عندما زار ليلا إحدى الفرق التابعة للقيادة المتمركزة بجبل عياش بناحية ميدلت، أي فرقة سي الحسين الزموري، نائب سي عبد القادر بوزار، وهما القادمان معا من مدينة خنيفرة. كما اشتغل هذا الأخير، أي سي عبد القادر بوزار في منطقة تافيلالت مع عبد الغني الورديغي».

 

 

الأسرى السابقون بالمغرب وحكايات الصوم أيام المولى إسماعيل

 يروي مؤرخون مغاربة أن المولى إسماعيل، السلطان العلوي الذي حكم المغرب ما بين سنتي 1672 و1727، كان يعتبر شهر رمضان أقدس أشهر السنة، حيث كان يحيي طقوس الشهر الفضيل رغم الحروب التي كانت تعرفها البلاد، سواء مع الدول الأجنبية، أو الحروب الأهلية التي كان يواجهها هذا السلطان «الأسطوري» بجيش البخاري، الذي كان يحظى بشهرة واسعة لدى الدول الأوروبية، وحتى في الشرق.

تداولت روايات كثيرة صرامة السلطان المولى إسماعيل في التعامل مع الأسرى الأجانب، الذين فاوض بهم المغرب لاسترجاع أسرى مغاربة، خلال المعارك مع الإسبان والبرتغال. لكن بعض تلك الروايات لم تخل من مبالغات، خصوصا وأن الأسرى الأجانب، وعلى رأسهم الأسير الفرنسي الشهير موييط، والذي كتب مذكراته عن سنوات الأسر التي قضاها في المغرب، خلال فترة حكم المولى إسماعيل، وكيف أنه جيء به للمشاركة في أشغال بناء مدينة مكناس.

هذا الأسير حكى كيف أن المولى إسماعيل مر في إحدى جولاته التفقدية بالأسرى وهم في ذروة الاشتغال، وقال له أحد معاونيه إن هؤلاء الأسرى الأوروبيين يشتغلون بفتور، لأنهم لا يشربون الخمر طوال فترة أسرهم في المغرب، وإن بعضهم حصلوا على كمية من الخمور وشربوها بشراهة، وأصبحوا يشتغلون بنشاط منقطع النظير في بناء سور مكناس، إلى أن زال مفعول الخمر من أجسادهم، فعادوا إلى كسلهم وفتورهم. فأعطى السلطان المولى إسماعيل أمره على الفور بإحضار الكميات المطلوبة من الخمور، على أن يستهلكها الأسرى وحدهم.

هذه الواقعة التي رواها الأسير موييط، تؤكد التسامح الكبير الذي كان لدى المولى إسماعيل، وتفند بعض الروايات التي كانت تقول إن السلطان المولى إسماعيل فرض الصوم على الأسرى الأوروبيين. بينما كانت الحقيقة، بشهادة هذا الأسير الفرنسي، أن الأسرى جميعا يتم تخييرهم بين اعتناق الإسلام والحصول على حريتهم والبقاء بين المغاربة، وبين الاستمرار على ديانتهم والعمل كأسرى حرب في البناء، أو نسخ الكتب، أو العمل في أي حرفة كان يزاولها الأسير، قبل وقوعه في الأسر.

وهكذا تبقى فرضية أن يُفرض الصيام على الأسرى الأجانب ضعيفة للغاية، ولا تعدو أن تكون واحدة من المبالغات التي أحيطت بها شخصية المولى إسماعيل، الذي بلغ انفتاحه على أوروبا، استقباله سفراء أجانب من بريطانيا وفرنسا، واستمرار حربه ضد الإسبان والبرتغال لسنوات طويلة، انتهت بتوقيع هدنة بشروط مغربية، وهو ما يؤكد مرة أخرى أن السلطان المولى إسماعيل كان فعلا وراء هندسة سياسة خارجية مغربية محكمة، جنبت المغرب الوقوع تحت الاستعمار البرتغالي والإسباني لسنوات طويلة.

تسامح المولى إسماعيل في الشأن الديني، كان بارزا في احترامه للعلماء الكبار أمثال الشيخ الحسن اليوسي، الذي كان يحظى بتقدير كبير لدى هذا السلطان العلوي. إذ كان معروفا أن اليوسي من العلماء المغاربة الذين عرفوا بالاعتدال، ولم تكن في رسائله إلى المولى إسماعيل، والتي كانت نصائح مباشرة من عالم كبير إلى السلطان، أي إشارة إلى ضرورة ترك النصارى يمارسون عقيدتهم، دون أن يفرض عليهم اعتناق الإسلام، أو صوم رمضان بالقوة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى