التاريخ المنسي لحرب الموانئ بعضها تسبب في إحراق مدن وإفلاس العائلات
قبل أن يصبح المغرب أول رائد في تجهيز الموانئ في القارة الإفريقية، بعد افتتاح ميناء طنجة المتوسط الذي أزاح موانئ كبرى بالعالم من لائحة ترتيب أكبر الموانئ التي تحقق أرقام معاملات ضخمة سنويا، عاشت البلاد فترات تاريخية حالكة وأخرى ملتهبة، صنعنا من خلالها تاريخا كاملا من «حرب الموانئ» التي لم تكن تنتهي إلا لتبدأ..، خصوصا وأن الموانئ المغربية كانت دائما في مرمى مدفعيات إسبانيا والبرتغال. وحتى خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية بل ومع استقلال المغرب، كان موضوع الموانئ المغربية دائما محاطا بكثير من الحساسية لما تمثله من رمزية تاريخية.
يونس جنوحي
+++++++++
عندما قرر الفاسيون حرق ميناء الناظور
بعض المؤرخين، المنحدرين من فاس تحديدا أو من درسوا فيها، مثل عبد الهادي التازي الذي توفي أخيرا، وعبد الله الفاسي، الذي عايش المولى الحسن الأول ويعتبر أحد أهم المؤرخين الذين اشتغلوا في قلب دواوين الوزراء المغاربة خلال القرن 19 ورافق سفيرا مغربيا إلى أوربا في نفس الفترة، بالإضافة إلى الدكتور محمد الفاسي الذي كان أول وزير للتعليم في حكومة سنة 1956، كل هؤلاء تطرقوا إلى تاريخ مدينة فاس، لكنهم تجنبوا أو لم يركزوا أساسا، على الجوانب المحرجة لتاريخ بعض مشاهير فاس ومن صنعوا مجدها..، خصوصا في تنافسهم على السلطة والمال.
إذ إن واقعة محاولة الفاسيين إحراق ميناء مدينة الناظور، والتي تطرقت لها الكتابات الأجنبية أكثر مما أشار إليها المؤرخون المغاربة، كانت أعنف ممارسة لجأ إليها تجار فاس وأثرياؤها للتعبير عن رفضهم ميلاد منافسين لهم.
تعود الواقعة إلى ما قبل مجيء الدولة الإسلامية إلى المغرب، وهناك من شكك في الموضوع، وقال إن الواقعة حدثت بعد وفاة المولى إسماعيل، لكن لا توجد وثائق ولا مراسلات رسمية توثق لتاريخ معين للواقعة. إلا أن ما يهم هو تفاصيلها التي تناقلت عبر التاريخ الشفهي، والتي تطرق لها عدد من المؤرخين والباحثين في التراث الشفهي، خصوصا في منطقة الريف. إذ إن الحادث يعود إلى غضب الفاسيين من تضرر تجارتهم بسبب الغارات التي قام بها الإسبان على ميناء مدينة الجديدة، أحد أقدم الموانئ التي تعامل معها الفاسيون. بل إن سفراء القصر كانوا ينزلون في الجديدة بحرا، ويشدون الرحال إلى فاس. تضرر هذا الميناء انعكس بشكل مباشر على الوضعية الاقتصادية لتجار فاس الكبار. حدث كل هذا وهم يراقبون كيف أن التجار القادمين من الناظور كانوا يسيطرون على السوق لأن ميناء الناظور في البحر المتوسط كان بعيدا عن الحرب التي تدور رحاها في سواحل المحيط الأطلسي على مشارف مدينة «مازاكان». وهكذا قرروا وضع حد لاغتناء التجار في الناظور، وقرروا إرسال من يحرق الميناء في الناظور.
وهو ما جعل الريفيين يقررون الانتقام وإحراق فاس بدورهم. لكن الواقعة لم تتم. إذ إن حكاية من التاريخ الشفهي في الريف المغربي، حسب ما نقله الباحث محمد أزناكي، الذي أنجز عددا من المقالات والدراسات عن الريف، تستحق أن تُروى. فقد قال، في مقال عن رغبة الريفيين في الانتقام وإحراق مدينة الناظور: «تقول الحكاية الشعبية المأثورة: إن ريفيي «آيت توزين» لما استشاط غضبهم وتذمرهم من جشع الفاسيين واستفزازاتهم، قرروا التخلص منهم بصفة نهائية عن طريق إحراق مدينة فاس التي تؤويهم، وهكذا شدوا الرحال إليها في حملة تأديبية غاضبة.. ولكن عندما بلغوا مشارف المدينة تفقدوا فتيل وعود الكبريت في رحلهم وبين أمتعتهم، فلم يجدوا له أثرا. ربما نسوه.. أو أضاعوه في الطريق. ومع ذلك، ومن شدة سخطهم على هؤلاء القوم، لم يرضوا حتى بشراء عود الكبريت من عندهم، بل فضلوا العودة أدراجهم إلى أرض الريف لجلبه، ومن ثم العودة مرة أخرى لإتمام مهمة إحراق فاس. هذا ما يقوله متن الحكاية حسبما هو متوارث جيلا عن جيل. أما أنا فقد حاولت التجوال بين مجموعة من الكتب التي قلما تخلو منها إشارة ولو من بعيد إلى دخان النار/ الحكاية. والتي تعود جذورها إلى العصر «المغربي» الوسيط، أيام كان ميناء الدولة البادسية بالريف، المنفذ البحري الدولي الوحيد بالنسبة لـ«الدولة» المغربية، والمرفأ الأقرب لعاصمتها فاس (في زمن لم يكن فيه شيء اسمه ميناء طنجة المتوسط، ولا الصويرة ولا الدار البيضاء) هذا الميناء الريفي التاريخي الذي لعب دورا حيويا كبيرا في تنشيط حركة المبادلات التجارية بين ضفتي المتوسط، بعدما تكاملت مجموعة من العناصر المتضافرة في تبوئه لهذه المكانة التجارية والاقتصادية الهامة والخطيرة، خاصة موقعه الجغرافي الاستراتيجي، كنقطة وصل بين الساحلين المتوسطيين، الجنوبي الريفي الإفريقي».
الجمارك المغربية.. قبل 400 عام وصفها الأجانب بـ«الصارمة»
في اعتقاد عدد من الباحثين، خصوصا الأجانب الذين ركزوا على تاريخ المغرب، فإن «حقد» موظفي الجمارك المغاربة على الأجانب كان نابعا من منظور ديني. لكن الحقيقة أن موظفي الجمارك المغاربة عبر التاريخ القديم لإطلاق الموانئ المغربية، كانوا دائما متجهمين، ولم يكن منصبهم يسمح لهم بتكوين صداقات مع أحد ولا قبول الرشاوى.
وكلما خرج بعضهم عن القاعدة، كان البقية ينتظرون أن يتم العصف بهم لتعويضهم بآخرين يبدؤون بنفس الصرامة لكي يلاقوا نفس مصير من سبقهم في حالة التساهل في استخلاص الضرائب.
كان هؤلاء الموظفون موزعين على الموانئ الكبرى، خلال الأربعة قرون الأخيرة، أي منذ عهد المولى عبد الرحمن تقريبا، الذي ورث عن أسلافه نظاما ضريبيا غير مستقر، لكنه كان من الصرامة بما يكفي لاستخلاص الضرائب كلما كانت الدولة في حاجة إليها.
ولأن الحدود البرية وقتها لم يكن لها وجود، فقد كان وجود الجمارك متركزا أساسا في الموانئ، خصوصا موانئ الجديدة والصويرة وطنجة وأيضا ميناء الدار البيضاء الذي أعيد بناؤه كليا سنة 1907 ليصبح الميناء الأول في المنطقة وليس في المغرب فقط، قبل أن تأتي فصول أخرى من التاريخ.
هؤلاء الموظفون لم يكونوا يتوارثون مناصبهم على شاكلة القطاعات الأخرى التي تتوارثها العائلات. وإنما كان الوصول إلى مناصب استخلاص الضرائب في الموانئ يأتي عبر اختيار وزراء داخل القصر الملكي لمن يكون مناسبا للمهمة. حيث يتدخل القضاة وعلماء القرويين بفاس، في لائحة تلك التعيينات، وترفع إلى القصر مباشرة لكي يقرر فيها. وعندما ترغب الدولة في بدء إصلاحات ضريبية، فإن أول من يطيرون من مناصبهم هم موظفو الجمارك، خصوصا عندما لا يكون أداؤهم مقنعا.
لذلك كان الراغبون في الاستقرار بكنف المخزن، يتهربون دائما من العمل في قطاع الجمارك، لأنه كان دائما الملعب الذي لا تستقر أرضيته ولا لاعبوه، ولا يدخله فريق إلا ليغادره.
+++++++++++++++++++
صعود وهبوط عائلات ارتبطت ثروتها بعالم البحر والسفن
في كتاب «الاستقصا»، أحد أهم المراجع التاريخية على الإطلاق، إذ جمع أخبار وتاريخ الدولة المغربية منذ نشأتها إلى اليوم، توجد إشارات لمحطات كثيرة خلقت فيها موانئ مدن الجديدة، الناظور والصويرة الحدث، بل وكانت السبب في أزمات سياسية احتاج «المخزن» لإطفائها أسابيع امتدت أحيانا إلى أشهر من الحصار.
ففي عهد المولى محمد الرابع، كان ميناء الجديدة سببا في أزمة كبيرة عصفت بمسؤولين كبار في المخزن. حتى أن بعض المؤرخين أطلقوا عليها «الحملة»، حيث بدأت سنة 1862، واستمرت لأشهر إلى أن عين القصر الملكي مسؤولين جددا.
المولى محمد الرابع هو والد المولى الحسن الأول الذي عرف المغرب في عهده عددا من الإصلاحات لقطاع الموانئ وإعفاء عائلات كانت تشرف على الموانئ لقرون، وتعيين مخزنيين جدد تم إرسالهم من فاس، عاصمة حكم المولى الحسن الأول، للإشراف على حسابات ميناءي مدينتي الصويرة والجديدة، وإنهاء هيمنة بعض التجار عليهما، حيث رفض بعضهم أداء الضرائب للدولة المغربية منذ عهد المولى عبد الرحمن، الذي توفي سنة 1859 وترك لابنه محمد الرابع تركة ثقيلة لتصفية مشاكل الموانئ المغربية وتطهيرها من سيطرة بعض العائلات المغربية والشركات الأجنبية أيضا. واستمرت معركة تجديد عائلات موظفي هذين الميناءين لسنوات إلى أن جاء عهد المولى الحسن الأول، حفيد المولى عبد الرحمن، حيث إن الحسن الأول وصل إلى الحكم سنة 1873، واستمر في معركته لإعادة تنظيم الموانئ وسن قوانين الضرائب التي يستخلصها أعوان «دار المخزن» من السفن، إلى أن توفي سنة 1894 تاركا المغرب في حالة من الترقب إثر التنافس بين فرنسا وبريطانيا لاحتلال البلاد، وهي المنافسة التي انتهت بتوقيع معاهدة الحماية، حيث كان بناء ميناء الدار البيضاء، و«بور ليوطي»، الذي سمي لاحقا ميناء مدينة القنيطرة، أهم نقطة قامت بها فرنسا خلال السنوات الأولى لوصولها إلى المغرب، حيث عمدت الإقامة العامة الفرنسية الجديدة إلى إنهاء النموذج المخزني في بناء وتسيير الموانئ بالطريقة التقليدية، وأقامت إدارات وأجهزة لاستقبال السفن الفرنسية وسجلات إدارية وعينت موظفين فرنسيين في الجمارك، ولم يتم توظيف المغاربة نهائيا في إدارة الموانئ، إلى حدود عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، عندما تم تشكيل مجلس من الأعيان المغاربة الذين لعبوا دورا استشاريا في تسيير ميناء الدار البيضاء، أمثال الثري التازي الذي كان مستشارا اقتصاديا للمولى يوسف إلى حدود سنة 1927، ثم مع محمد الغزاوي الذي كان بدوره أحد أوائل المغاربة الذين اشتغلوا في قطاع الاستيراد والتصدير. بالإضافة إلى يهود مغاربة كانوا يشرفون على شركات عائلية لهم، وساهموا بشكل كبير في رواج ميناءي الدار البيضاء والقنيطرة (بور ليوطي) خلال تلك الفترة، خصوصا بعد الحرب العالمية الأولى..، إذ كانوا يربطون شراكات قوية مع شركات فرنسية وبريطانية وأمريكية أيضا، وتأثروا كثيرا بالأزمة الاقتصادية لسنة 1929.
والمثير في الموضوع أن مغرب الاستقلال، في مارس 1956، عرف صراعا سياسيا كبيرا أثناء تكوين نقابات موظفي الموانئ، وعاد من جديد الصراع القديم حول الأسماء والعائلات التي وظفت في تدبير إدارة الموانئ.
عندما أثارت مدينة الصويرة غيرة أثرياء المغرب
بسبب مينائها الجديد الذي قرر المولى سليمان إطلاقه، إذ رغم أن حكمه لم يستمر سوى سبع سنوات فقط، ما بين 1797 و1822، إلا أنها كانت كافية لكي يبعث هذا السلطان العلوي نفسا جديدا في الاقتصاد المغربي. رغم أنه في بداية عهده أغلق كل المراسي المغربية وقطع العلاقات التجارية مع الشركات الإسبانية والبرتغالية، ليس لسبب سياسي أو عدائي مع أوربا كما روجت بعض الكتب التاريخية، ولكن السبب الحقيقي كان هو انتشار وباء الطاعون.
إذ مباشرة بعد تجاوز تلك الأزمة، كان المولى سليمان أول من جمع نخبة التجار اليهود، حيث أمر بإحضار ممثليهم إليه في قصر فاس، واجتمع معهم بحضور بعض علماء القرويين لكي ينظم حسب الشريعة الإسلامية نظام استخلاص الضرائب من هؤلاء التجار الذين كانوا يُعتبرون أثرى أثرياء المغرب، بالإضافة إلى تجار آخرين. واستمر النقاش حول تأهيل الصويرة لكي تكون قطبا اقتصاديا جديدا في المغرب بالاعتماد على المرسى التاريخي الذي صمد أمام الغزو الإسباني والبرتغالي، لسنوات، وتطورت أكثر من بعده.
إذ من بين الأمور التي عجلت بالمسارعة إلى تأهيل الصويرة، الحرب الأهلية التي اندلعت في عهده بين مدينتي فاس وتطوان، حيث تضرر التجار المغاربة الأثرياء كثيرا بسبب تلك الحرب، وأصبحت أسواق فاس تعاني كسادا كبيرا بسبب الحرب التي احتاج السلطان سليمان لإطفائها، الخروج بنفسه على رأس الجيش لإخماد التمرد ضد المخزن.
ورغم أن المولى سليمان عرف بأنه فتح أبواب استقبال كل فئات التجار والأعيان وحتى ممثلي القبائل، إلا أن عدم الاستقرار السياسي كان بمثابة المعرقل الأكبر للإصلاحات التي أراد مباشرتها خلال فترة حكمه التي وُصفت بالقصيرة وغير الكافية لتنفيذ كل ما خطه من إصلاحات.
ميناء الصويرة عرف ازدهارا كبيرا بعد سنة 1822، حيث أمر المخزن المغربي بإنشاء منازل تحولت إليها عائلات ثرية واستقرت بالصويرة، رغم أن بعض هذه الأسر كانت تُحسب من «أباطرة» مدينة فاس. إلا أن تعليمات المخزن كانت واضحة وصارمة أيضا، إذ كان موضوع إنجاح ميناء الصويرة أحد أكبر أولويات الدولة المغربية لإنهاء حالة التسيب في جمع ضرائب الدولة المغربية من هؤلاء التجار الذين كانوا يربطون شراكات مع عمالقة الاقتصاد الأوربي.
ولا يزال ميناء الصويرة إلى اليوم يشهد، من خلال أسواره التاريخية التي تعرضت للترميم قبل قرون، أول مدينة مغربية خطط لها السلطان العلوي مولاي سليمان لكي تصبح قوة اقتصاد المغرب في علاقته بالعالم. حيث استقرت بها نخبة من العائلات المغربية الثرية، كما تمت الإشارة إليه سابقا، لكي يطلقوا بها مشاريع اقتصادية لتصدير السلع المغربية نحو أمريكا وأوروبا. كان هذا قبل حوالي 400 سنة، حيث كانت عائلات مسلمة ويهودية تضطلع بمهمة تحقيق إقلاع اقتصادي للمغرب. وهو ما جرّ على المدينة الكثير من الحروب لمحاولة إقبار مشروع ميناء الصويرة.
يقول د. محمد مفيد، وهو أستاذ جامعي مُحاضر في عدد من الولايات الأمريكية منذ سنة 1991، إن مدينة الصويرة بالنسبة له تبقى أيقونة للثقافة، ويتأسف لأن أوراقا مهمة من أرشيف الصويرة ضاعت إلى الأبد، خصوصا منها التي تتعلق بتاريخ إنشاء السفارات والقنصليات الأجنبية في المغرب. إذ إن الصويرة كانت أول مدينة مغربية تفتح بها أزيد من عشر قنصليات لبلدان من مختلف أنحاء العالم بغية رعاية مصالح الشركات الأجنبية التي تعاقدت مع ميناء الصويرة منذ نهاية القرن 16.
وفي النهاية، نجح، فعلا، المشروع الذي آمن به المولى سليمان، وأصبحت الصويرة أول ميناء مغربي ينجح في خلق منافسة تجارية مع أوربا، خصوصا بريطانيا، حيث كانت العلاقات القديمة التي تجمع شركات بريطانية بالمغرب منذ عهد الدولة السعدية، تعرف تجديدا كبيرا بعد إنشاء الصويرة، حيث ربطت عائلات يهودية مغربية، مثل المالح ومقنين وعمران، علاقات تجارية وطيدة مع الحكومات. وفي عهد المولى محمد الرابع وضعت قوانين جديدة لاستخلاص الضرائب بشكل مباشر من تجار الصويرة اعتمادا على سجلات صادراتهم إلى الخارج، وكان ذلك النظام الضريبي وقتها ثوريا جدا، مقارنة مع الطريقة المخزنية القديمة لاستخلاص الضرائب و«المكوس». ورغم ذلك فقد فر عدد من التجار من المغرب رافضين أداء ضرائبهم للدولة، واشتهرت تلك الفترة بفترة «المحميين» أي الذين حصلوا على جوازات سفر أجنبية وتجنسوا بجنسيات أوربية حتى لا تسري عليهم القوانين المغربية الجديدة بخصوص الضرائب، وامتنعوا عن أداء الضرائب للدولة، رغم أنهم جاؤوا إلى الصويرة أساسا بغرض إنعاش الاقتصاد المغربي.
قصة أشهر ميناء تسبب في حرب بين عائلات المال المغربية
يتعلق الأمر بميناء الصويرة أساسا، لأنه، وحسب مصادر تاريخية متطابقة، يبقى أول ميناء مغربي سلطت عليه الأضواء، رغم أن موانئ أخرى سبقته إلى الوجود، مثل ميناء الناظور وميناء طنجة الذي كان أول ميناء مغربي يصل إلى العالمية. لكن ميناء الصويرة، بالنسبة للمخزن المغربي، كان يمثل النقطة التي يقاس بها أمان البلاد بسبب الغارات الإسبانية والبرتغالية. لذلك كان الاهتمام المحلي بميناء الصويرة كبيرا جدا.
جاء في مرجع تاريخي مهم ونادر، باسم «تجار الصويرة»، ما يلي: «حقيقة الظروف والملابسات التي وقع فيها انتقال آل أفرياط من إفران إلى الصويرة، ليست واضحة تمام الوضوح. ولا بد أن يكون النتفالي ابن الحزان يهودة قد انتقل من كولميم أثناء تمرد أبو إحلاس أو في السنوات التي لحقته. وربما صادف انتقاله الازدهار المتزايد لأحوال أسرة بيروك في منطقة واد نون، ذلك الازدهار الذي ارتبط بتطور المبادلات التجارية مع أوربا انطلاقا من مرسى الصويرة. وقد أصبح أفراد أسرة النفتالي أفرياط التجار الأساسيين عند الشيخ بيروك في كولميم. وفي سنة 1837، حل يوسف ابن النتفالي في الصويرة وكيلا لبيروك للتفاوض على تسوية سرية مع الفرنسيين تسمح بقيام نشاط تجاري على ساحل واد نون. ويبدو أن إخوة آل أفرياط هذا، لم يكونوا كلهم، قد استقروا بالصويرة بعد المواجهة العسكرية مع فرنسا سنة 1844. وكانت ولادة أبرهام أفرياط المعروف بالحزان بيهي في كولميم سنة 1820. وربما تفوق على إخوته في التمتع بامتيازات خاصة من القصر السلطاني، إذ هو الذي كان يظهر اسمه على كل حال في كنانيش المخزن وسجلاته دلالة على استفادته من السلفات السلطانية. وكان أفرياط كآل قرقوز من أهم مزودي بحاجياته من الكماليات ووسائل الترف. وفي سنة 1863 مثلا، تحمل المخزن مصاريف كراء ستة جمال لنقل كميات من الأثواب الرفيعة أرسلها إليه أبراهام أفرياط. واعتنى بمصالح تجار آخرين كانت تربطه بهم أواصر المصاهرة. وفي سنة 1867، انتكست تجارة إسحاق أفرياط، صهر أبراهام. وعلى إثر ذلك كتب أبراهام إلى أمين الأمناء محمد بنيس يطلب منه السماح لإسحاق، بتأجيل تسديد التزاماته الشهرية من الدين حتى تتحسن أحوال تجارته، وقال: «فإنه مدة من عشرة أعوام سلفت يدفع فرياط ما وجب عليه ولم يعجز حتى وصله ضرر».
لكن المثير في قصص الذين سقطوا مثل التاجر إسحاق، أنه كان ملتزما بأداء ضرائب وأقساط شهرية للدولة. بينما كان آخرون يتهربون من أداء الضرائب، ويراكمون المزيد من الثروة. لكن هؤلاء لم يعمروا طويلا. فقد كانت السنوات الأخرى اللاحقة تحمل للجميع الكثير من الإثارة.
لقد سبق لبعض التجار الأثرياء أن أصبحوا أصدقاء للقصر، حتى أن بعضهم، كما جاء في بعض المراجع، استفادوا من ديون من السلطان شخصيا. وقد سبق للمولى الحسن الأول ووالده أن أنقذا تجارة عدد من أثرياء المغرب، ومنحاهم أموالا للاتجار بها، وإعادتها على أقساط. لكن بعض هؤلاء لم يعيدوا ما عليهم من ديون للسلطان، بل وتخلفوا أيضا عن أداء الضرائب.
كل هذه الخيوط والقصص ارتبطت مباشرة بميناء الصويرة، إذ لولا وصول هذه العائلات إلى الصويرة بأمر «ملكي»، لما كانت ثروتها موضوع تحقيق تاريخي. مسلمين كانوا أو يهودا، كان تجار الصويرة يمارسون نوعا من الالتواء على قوانين دار المخزن لكي لا يؤدوا الضرائب. وهذا تسبب في حرب طاحنة بينهم وبين عائلات دار المخزن خصوصا عائلة الجامعي ثم بعده باحماد. إذ كان هؤلاء الموظفون المخزنيون يعتبرون التجار في الصويرة انتهازيين، بينما كان هؤلاء ينظرون إلى الجالسين في فاس على أنهم يد من حديد تريد ضرب جيوبهم. لكن التاريخ حاكمهم جميعا، وبسبب امتناع هؤلاء التجار عن أداء الضرائب والديون للدولة التي سمحت لهم بإبرام صفقات باسم المغرب مع شركات لتصنيع السفن وأخرى لاستيراد الحبوب وراكموا من ورائها ثروة ضخمة، وامتنعوا عن أداء مستحقات الدولة.
الحملة التطهيرية لإدريس البصري.. لعنة أصابت ميناء البيضاء
لن ينسى موظفو ميناء الدار البيضاء سنة 1996، أبدا، الهمسات في أروقة إدارة الميناء، وهم يرددون ما يصل من إشاعات بخصوص استهداف إدريس البصري، وزير الداخلية، لأسماء تدبر أكبر ميناء في المغرب، لكي تدرج في لائحة الذين سيتم التحقيق معهم خلال الحملة التطهيرية.
كانت الأجواء عصيبة جدا، خصوصا وأن إدريس البصري حوّل الحملة التطهيرية التي كان الهدف منها إنقاذ اقتصاد المغرب ومعاقبة الفاسدين، إلى حملة للتصفيات السياسية لخصوم وزير الداخلية وغير المرغوب فيهم بالنسبة له ولمن يدورون في فلكه.
كان ميناء الدار البيضاء نقطة التقاء رؤوس أموال أثرياء المغرب، وكان وقتها يحقق أرقام معاملات قياسية، لكن حكايات المسؤولين الكبار ورجال الأعمال النافذين جدا الذين لم يكونوا يؤدون الضرائب، ويُخرجون من الميناء شحنات كاملة من السلع دون أن يؤدوا عنها الضريبة، وحكايات اختفاء المعدات وغيرها من قصص استغلال النفوذ، كلها جعلت الميناء يكون الهدف الأول للحملة التطهيرية. لكن بدل معاقبة الفاسدين، تم إرسال بعض الموظفين المشهود لهم بالكفاءة إلى السجن على ذمة التحقيق. إلى أن قام الملك الراحل الحسن الثاني، بعد تأكده من تحول الحملة التطهيرية إلى «عصا» لتصفية الخلافات السياسية والمالية، بإيقاف الحملة، لإدراكه وقتها أن الحملة قامت بسجن بعض الموظفين الذين لم تكن لهم أية علاقة بالأباطرة الحقيقيين الذين كانوا يحركون خيوط الفساد والتهرب الضريبي.
كانت هذه الحملة التطهيرية في الحقيقة مجرد امتداد للصراع التاريخي الكبير الذي رافق عمليات الموانئ المغربية على مدى الخمسة قرون الأخيرة. ولم يكن جديدا على «المخزن»، أبدا، أن يعرف محيط أكبر ميناء في المغرب كل هذه التشنجات.
كان إدريس البصري قد أرسل مئات رجال الأعمال إلى السجن بسبب الحملة التطهيرية، وتدخل مستشارون ملكيون مثل عبد الهادي بوطالب لكي يقول للملك الحسن الثاني إن إدريس البصري استغل صلاحياته وأرسل رجال أعمال إلى السجن وترك آخرين متورطين في الفساد حتى الأذنين فقط لأن لديهم مصالح مع البصري أو أنهم من أصدقائه.
وهذه سياسة قديمة في أعراف المخزن، حيث إن المقربين من السلطان كانوا دائما يعاقبون خصومهم، ويتركون أصدقاءهم بعيدا عن المُساءلة، إلى أن يتدخل القصر لإصلاح الوضع، وإعلان ثورة داخل الموانئ، وتعيين موظفين جدد لا يعرفون سوى استخلاص الضرائب من الجميع، قبل أن تصل إليهم يد النافذين لتطويعهم، وتستمر المعركة.