التاريخ الفظيع لمحاكم التفتيش
بقلم: الدكتور خالص جلبي
بقدر ما كان التاريخ الأوروبي الحالي لامعا بالعقلانية والتنوير، وحرية الفكر، والديموقراطية الداخلية، وحل مشكلة نقل السلطة السلمي، وحرية المرأة النسبية، والثورة العلمية، والتسامح الثقافي، والإيمان بالتعددية، وتحرير آليات النقد الاجتماعي؛ فليس هناك حقل أو مؤسسة أو شخص فوق النقد.. بقدر ما تخلصت أوروبا من الوثنية السياسية وعبادة الأشخاص، بقدر ما كان تاريخها ظلاميا استعماريا مروعا بحجم خرافي، ربما لم تمارسه أمم من الأمم، في سبع روايات درامية فاجعة.
حرق الإنسان من أجل رأيه
أفظع ما في الفصول قصص محاكم التفتيش باستخدامها «النار ذات الوقود»، لحرق الناس أحياء من أجل آرائهم. إن حرق الناس من أجل آرائهم ليس أفكارا من بنات الخيال أو «الفبركة التاريخية»، إن هناك ملايين من الناس أنهوا حياتهم فوق أكوام القش والخشب الملتهب في أشنع موتة يمكن تصورها، وهي التي دفعت «غاليلو»، رأس الحداثة وعصر التنوير عام 1633م؛ كما وصفه الفيلسوف البريطاني «راسل» أن يفقد جرأته الأدبية أمام ألسنة النيران الراقصة، ويركع خاشعا أمامها، ويدون كلمات حزينة ذليلة، بالاعتراف الكامل بأنه كان في ضلال مبين.
إن التاريخ حفظ لنا هذا في أعظم وأوثق مدونة تاريخية في القرآن؛ مما يجعلنا نفهم لماذا ينزِّل الله من عليائه، سورة كاملة تحمل رمزية عميقة باسم «البروج»، في الدفاع عن الإنسان الذي يحرق من أجل رأيه فقط، كما حصل مع المفكر الإيطالي «جيوردانو برونو»، الذي شوي على نار ذات لهب، في 17 فبراير عام 1600 ميلادي، في افتتاحية متناقضة (مشؤومة – مباركة) للقرن السابع عشر، قرن التنوير؛ فالنار ذات اللهب من جسد برونو المحترق أنارت روح القرن.
برونو أحُرق لأنه رأى أن مفهوم مركب الأقانيم الثلاثة (TRINITY) لا يتوافق مع نظام كوني فسيح أكبر من تصورات الكنيسة، عندما أحدثت شرخا بين الإيمان والعلم، خلَّف ظلاله الكئيبة على كل الجنس البشري على كل مساحات التفكير، على كل أحرار الفكر، على كل من يكتب بشكل وآخر. فأصبح الفكر والدين في تضاد ونقيض وتنافر وحرب. وما نكتبه اليوم هو محاولة دؤوبة لإعادة الصلة الطبيعية، كما فعل القرآن بتصميم في مزج العلم بالإيمان «وقال الذين أوتوا العلم والإيمان».
العلم ليس أصول فقه وتفسير.، العلم يضم هذا ويزيد من الكوسمولوجيا والأنثروبولوجيا (علم الفلك والإنسان) وسواه. الكنيسة قامت بخطيئة تاريخية رسمت فيها صراعا وإشكالية، لم يتحرر منها العقل الإنساني ويتعافى حتى هذه اللحظة.
سبع روايات درامية فاجعة يؤلفها الغرب
الغرب قام بخط سبع فقرات تاريخية دموية من:
(1)(محاكم التفتيش).
(2)(الحروب الصليبية).
(3)(إشعال الحروب الكونية).
(4)(محارق النازية).
(5)(إبادة مائة مليون أسود في حملات نهب إفريقيا)، تلك التي خلدها فيلم «أميستاد Amistad».
(6) (إبادة مائة مليون إنسان تحت ظل الأنظمة الشيوعية).
(7) (تفريغ قارة أمريكا بأكملها من سكانها وتدمير حضارات عالمية). هذه الرواية التاريخية تفيدنا بثلاث ملاحظات:
1- الأولى: بقدر ما كان التسامح أكسجين الحضارة، بقدر ما كان التعصب أكسيد فحمها على حد تعبير المفكر «جورج طرابيشي».
2- الثانية: وأن أوروبا لا تخرج عن السياق الكوني؛ فكل حضارة عانت وتطورت؛ ولا يوجد تميز لحضارة عن حضارة، وتلك الأيام نداولها بين الناس، فليس العقل الأوروبي بخارج عن الخرافة، ولا العقل العربي بمحمي من السقوط في الخرافة، ومرض الاستبداد ليس شرقيا؛ بل هو مرض إنساني، يمكن أن تسقط في براثنه أية أمة، أو يقع في سجف ظلامه أي شعب، إذا لم يحرر بآليات وعي حادة وتنظيم قوى مضادة.
3- الحكمة الثالثة: أن أوروبا بقدر التماعها في العصور الحديثة بعد انتشار حركة التنوير، بقدر ظلاميتها التاريخية في العصور الوسطى، وبقدر تحرر الأوروبيين الداخلي يتخذون مصانع لعلهم يخلدون، بقدر إذا بطشوا بطشوا جبارين؛ فكما علوا في الأرض حاليا وجعلوا العالم شيعا يستضعفون طائفة منهم، كذلك كانوا في أسفل سافلين من قبل، فتحرروا بنور العقل وحرية الرأي؛ فالعالم المسيحي بعد انحطاط دام ألف سنة بدأ يتقدم، والعالم الإسلامي بعد تقدم خمسة قرون طفق يتراجع. العالم المسيحي انتهى إلى ما بدأ منه العالم الإسلامي، والعالم الإسلامي انتهى إلى ما بدأ منه العالم المسيحي.
تكتب الحضارة من اليسار إلى اليمين بالدم
يروي لنا التاريخ «سبعة» فصول إجرامية تمت على يد الجنس الأبيض، كشف الفاتيكان النقاب عن الفصل الأخير فيها بمحاولة «بريسترويكا داخلية»؛ بالسماح للمؤرخين بالاطلاع على 4500 ملف سري، تعود إلى أيام محاكم التفتيش (INQUISTION) من العصور الوسطى.
كتبت هذه الفصول فيها من اليسار إلى اليمين بالدم، بعد أن كانت تكتب الحضارة بمداد من اليمين إلى الشمال. نفذ طرف من هذه الفصول في العصور الحديثة، مما لا يقترب من مستواه أي طاغية أو مجرم من حجم هولاكو أو تيمور الأعرج.
أهمية ما حدث أنه طبق على يد دول عصرية متعلمة، نفذتها بروح سادية يصعب فهمها ومن خلال مركزية أوروبية تلغي الآخر فيه، وبحجم من الضحايا يعبر عنه منطق الشيوعي جوزيف ستالين «موت إنسان تراجيديا، أما موت الملايين فهو مسألة إحصائية».
إحراق مليون امرأة بتهمة السحر
أوروبا انشأت محاكم التفتيش وبقيت تعمل لفترة تزيد على خمسة قرون في مهمة مقدسة لإطفاء حركة العقل وهمس الفكر، أرسلت فيها إلى أقبية الموت المظلمة الباردة، حسب أحدث التقديرات رقما يقشعر له البدن، يتراوح بين مليون إلى عشرة ملايين، منهم بين عامي فقط 1450 – 1750م، مليون امرأة إلى المحارق تحت تهمة السحر.
إبادة مائة مليون أسود
أوروبا شحنت من شواطئ إفريقيا في ما يشبه علب السردين، شعوبا كاملة من السود، مسروقين مصادرين في ظروف شحن لا تتحملها الأنعام، مات خلالها أكثر من مائة مليون إنسان، في أكبر مجزرة جماعية عرفها تاريخ انتقال الإنسان من قارة إلى قارة.
أوروبا شنت أطول وأفظع حرب عرفها الجنس البشري في تاريخه وربما لن يرى نظيرها في المستقبل، شنتها على العالم العربي لفترة 171 سنة (1099 – 1270م) في سبع حملات مروعة، لم ينج من التدمير فيها شيء، تركت شرخا نفسيا ما زال يغذي الكثير من تصرفات الغرب تجاه القضايا العربية أتذكر منها ضرب معمل للأدوية في السودان في شهر غشت من عام 1998م، وجريمة المطلع مع انسحاب القوات العراقية بقتل 70 ألفا وهم يهربون على يد الرأس الأسود (شفارتزكوبف ـ بالألمانية شفارتز أسود وكوبف رأس)، ثم استباحة سوريا على يد السفاح الروسي بوتين «لا ننس أنه كان دماغ مخابرات ألمانيا الشرقية الأسبق الرهيب المعروف بـ«الستازي»».
تدمير ثلاث حضارات ومسح شعوب بكاملها من خريطة الحياة
أوروبا قامت في القرن السادس عشر بمسح شعوب كاملة من وجه الخريطة، وتفريغ قارات من أمم تعد بالملايين، وذبح حضارات متطورة من قارتين، ذنبها عدم إفراطها في التسلح ونقص مناعتها ضد الجدري، قامت بالمذبحة يومها إسبانيا (رأس حربة أوروبا المسيحية المتعصبة) عندما أبادت حوالي 80 مليون نسمة في أمريكا الوسطى لوحدها، و6 ملايين في أمريكا الجنوبية مع أنقاض مملكة «الإنكا INKA» في البيرو، وأما جزر الكاريبي التي كان يعيش فيها مليونان من شعب «التاينو TAINO» رائع الجمال، نضر الجسم كما وصفهم الغزاة الأوائل، كل ما تبقى منهم عندما وضع البريطانيون يدهم عليها في القرن الثامن عشر لم يزد على 200 شخص!
الكنيسة تعترف «إنه عار SCHANDE»
محاكم التفتيش أسسها البابا «إنوسنس الرابع INNOZENZ IV» عام 1252 م وبقيت تعمل لفترة خمسة قرون، أرسلت خلالها الى لجة الموت رقما يتراوح بين مليون إلى عشرة ملايين، قضى الكثير منهم نحبهم بالألم الفظيع على محارق النار ذات الوقود. لا غرابة أن أنزل الله في كتابه سورة بعنوان «البروج» يروي فيها قصة المحارق ويقسم «والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود»، ثم يوجه التهمة إلى «قتل أصحاب الأخدود إذ هم عليها قعود»، عندما يعذبون الناس ويحرقوهم لأفكارهم «وما نقموا منه إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد».
لم يكن أمام الكنيسة ولو بعد قرون إلا أن تدلي باعترافها، الذي جاء على لسان البابا «يوحنا الثاني» بعبارات مثيرة: كيف يمكن للإنسان أن يسكت عن ضروب من صور العنف المروعة تمارس باسم الإيمان؟ كيف تشن الحروب الدينية وتقام محاكم التفتيش تنبش عن عقائد الناس باسم التقوى؟ كيف تمارس صنوف شتى من أشكال انتهاك حقوق الإنسان باسم الدين؟ إنه لافت للنظر أن هذه الطرائق من الإكراه كانت فواتح وبدايات إنشاء الأنظمة التوتاليتارية للقرن العشرين، لقد كانت محاكم التفتيش مقدمات «الجستابو GESTAPO» النازي و«K.G.B» الشيوعي و«STASI» ألمانيا الشرقية من أنظمة الاستخبارات، التي تعتمد التعذيب صورة مشروعة لتدجين الإنسان.
لم يعرف التاريخ أرحم من العرب
هذا ما قاله المؤرخ الفرنسي «غوستاف لوبون»، في كتابه عن حضارة العرب. تاريخنا لم يحفظ فظائع «محاكم التفتيش» من هذا الحجم، باستثناء انفجارات محدودة يتعرض لها أي مجتمع.
هذه الإبادة المنظمة وإلغاء الآخر الكامل، كانت نموذجا غربيا كما اعترف بذلك المؤرخ البريطاني «توينبي TOYNBEE»، عندما رأى الحضارة في العربية الإسلامية أنها الأولى من نوعها التي حافظت واعترفت بالآخر وسمحت له بالعيش والبقاء؛ فلم يعرف التاريخ أرحم من العرب في معاملة الآخر النسبية. لا يوجد مجتمع أكثر تسامحا ويعترف بالتعددية من كل حضارات الأرض كما حصل في المجتمع العربي. مسجد قرطبة الهائل يتسع لـ20 ألف إنسان لا يصلي فيه اليوم مسلم واحد، إلا أن يكون سائحا. وفي الوقت الذي كان عدد سكان إسبانيا 8 ملايين قاموا بعملية أشبه بالانتحار، عندما أخرجوا في فترة أشهر بأكبر حماقة تاريخية ضاربة، تحت قانون عام 1609م في عهد الملك (فيليب الثالث)، بطرد 3 ملايين مسلم، يمثلون القوة العاملة الاقتصادية المثقفة في البلد، رمت الإمبراطورية الإسبانية إلى قرون في قائمة المتسكعين، في مؤخرة القافلة الأوروبية، والحجرة الخلفية المظلمة منها، ولكن التعصب والحماقة أعييا من يداويهما.
إن مدينة صغيرة من حجم مدينة «القامشلي» في الزاوية القصية من سوريا، ترطن فيها عشر لغات (العربية والكردية والتركية والأرمنية والآشورية والأرامية والسريانية … وتطرب فيها بألحان من ثلاث ثقافات؛ الكردية والعربية والتركية، وتتعايش فيها ثلاث ديانات، ومن المسيحية وحدها توجد ستة فرق «سريان – كاثوليك – بروتستانت – آشوريون – أرمن» بالكاد تتحمل بعضها البعض؛ بما فيها الفرقة النسطورية المنقرضة «الكلدان»، لكل منها مدرسة وكنيسة ولغة تعلم أبناءها فيها. هذه هي التعددية الفعلية في شهادة تاريخية صاعقة لمن كان له أذنان للسمع.