التاريخ السري لصناعة الأسلحة بالمغرب
في فاس، عندما انتشرت صناعة البنادق خلال القرن الماضي، حرّم المخزن صعود المواطنين إلى أسطح المنازل، وكان كل من سولت له نفسه الصعود إلى أسطح فاس، يواجه بطلقة بندقية ترديه قتيلا على الفور. كيف كان يصنع السلاح في المغرب؟ وكيف دخلت أول بندقية لتصبح في متناول المغاربة؟
دار الماكينة.. قصة أول مصنع للسلاح في المغرب
تروي بعض الروايات التاريخية أن سكان فاس، كانوا قد عاشوا وجود دار الماكينة التي كانت تصنع داخلها البنادق، ليتم نقلها إلى مناطق كثيرة من المغرب لاستعمالها في الحروب. «دار الماكينة» ليست قديمة بقدم ظهور السلاح لأول مرة في المغرب، وبدا من خلال الإشارات التاريخية أنها أول مصنع محلي للبنادق المغربية بعد أن استأنس المغاربة بهذا النوع من السلاح وأصبح الطلب عليه مرتفعا. وهكذا صارت للمغرب دار محلية لصناعة البنادق بعد أن توفر البارود المستعمل لحشوها بوفرة، ليصبح أمر توفير أسلحة نارية محلية أمرا مطلوبا أيضا.
خلال القرن العشرين، وفي بداياته، قبل أن تتحول الرباط إلى عاصمة إدارية بسنوات، كانت فاس عاصمة لأقوى التوترات التي مر بها المغرب، وهكذا كان مقدرا لأول مصنع للبنادق في المغرب أن يبنى فيها وليس في مكان آخر بالبلاد.
في الوقت الذي كان فيه القصر يشهد أجواء متذبذبة، وتنتشر تخوفات السكان من الانقلابات السياسية التي يقودها ثائرون في الجبال المحيطة بفاس، بالإضافة إلى الترقب الناتج عن توغل الأجانب من جنسيات مختلفة، كان من الضروري أن يكون هناك إقبال على التسلح.
«دار الماكينة» كانت تحظى بسمعة ضمنت لها وللعاملين فيها رهبة كبيرة في أوساط الفاسيين. كان كافيا أن يكون المغربي عاملا بسيطا في دار الماكينة ليكون مهاب الجانب. ما زاد الدار غموضا، هو الحكايات التي كانت محيطة بها. النخبة الفاسية كانت تتحدث عن مصنع الأسلحة وتضيف الكثير من البهارات التي حولت المكان إلى أسطورة حقيقية، والعاملين داخلها إلى بشر غير عاديين.
كان يحكى أن هؤلاء الذين كانوا يعملون داخل «دار الماكينة» ليسوا صناعا عاديين، وأنهم اختيروا من نخبة حرفيي المغرب من كل مكان، وأوكل إليهم أمر صناعة البنادق التي تقتل من بعيد، وطلب منهم تطويرها ليصبح مرماها أبعد. «صناعة الموت» كانت كافية لتضمن لهم مكانة اجتماعية مرموقة، رغم أن بعض المصادر التاريخية، الأجنبية، تحدثت عن كون العمال في صناعة البنادق المغربية المحلية كانوا عبارة عن حرفيين عاديين جيء بهم لصناعة البنادق وتزيينها بالزخارف المغربية، وكانوا يتقاضون أجورا هزيلة ويعملون لساعات متواصلة في ظروف صعبة داخل «دار الماكينة» التي تغلق عليهم من أولى ساعات الصباح إلى حلول المساء. كما أن نفس المصادر نقلت أنهم كانوا يعملون في ظروف بدائية وبمعدات محلية الصنع، وأنهم كانوا يصنعون مجسمات البنادق من الخشب والحديد، حيث يقلدون بطرق بدائية آلية اشتغال البنادق الأوروبية المتطورة.
لكن رغم كل هذا، فإن تلك البنادق المحلية لعبت أداورا كثيرة في صناعة الموقف المغربي من أحداث كان فيها التوغل الأجنبي سيد المرحلة، ولولاها لما كانت هناك محطات تاريخية كالثورات والمواجهات التي سقط فيها القتلى كالذباب.
بالعودة إلى دار الماكينة التي تعد تاريخا مستقلا لبداية صناعة الأسلحة في المغرب خلال القرن الماضي، فإن الحكايات التي نسجت حولها، جعلتها أسطورة حقيقية، خصوصا أن الفاسيين كانوا يمنعون من الخروج من بيوتهم أو الصعود إلى أسطحها في الوقت الذي يتم فيه إخراج شحنة السلاح من دار الماكينة بعد انتهاء التصنيع.
كان يطوف «براح» مكلف من طرف المخزن، يأمر الناس بالدخول إلى بيوتهم، وإغلاق النوافذ وانتظار الإشارة للخروج. هذه الإشارة لا تأتي إلا بعد مغادرة الشحنة لفاس، ويقال إن الداعي إلى كل هذه التدابير والاحتياطات التي تبدو مبالغا فيها، لم تأت إلا لضمان السرية حتى لا يعلم أحد الوجهة التي تم ترحيل الأسلحة إليها.
دار الماكينة بكل هذه الهالة التي أحيطت بها، لم تكن إلا جزءا صغيرا جدا من التاريخ الكبير لصناعة الأسلحة بالمغرب، لأن توفر البنادق والمسدسات كان رائجا قبل أن تنشأ دار الماكينة. وتقول بعض الروايات التاريخية إن السلاح كان أغلى من المؤونة في وقت المجاعات، وصرفت أموال طائلة للحصول عليه، كان ربما الأجدر أن تصرف على توفير الطعام. لكن بعد النظر ربما، أوحى إلى أجدادنا أن يضعوا أموالهم، وكان الذين يتوفرون عليها يعدون على رؤوس الأصابع، في اقتناء الأسلحة بدل الطعام.
الهاجس الأمني، غذى الرغبة في توفر القبائل على الأسلحة، في مغرب كان يعاني من انفلات أمني خطير، وعدم استقرار سياسي. كيف صنعت البنادق فرقا كبيرا في كتابة تاريخ البلاد؟ يبدو أن الجواب على السؤال سيكون مركبا، ومعقدا، لأن الحديث عن مغرب بدون بندقية، كان ليعصف بالمغاربة في وقت أبكر.
كيف غزت البنادق سوق السلاح بالمغرب
عندما ظهرت البنادق في المغرب، توسعت دائرة الحروب، وسرعان ما ساهم ظهور السلاح في توسيع رقعة الأزمات السياسية وتعميق حدّتها بعد أن كانت الكلمة للسيوف فقط. عندما أصبحت لغة البارود مسموعة في المغرب، أصبح الهاجس الأمني الشغل الشاغل لموظفي «المخزن» خصوصا في الجنوب المغربي، وفي الريف، حيث قامت الثورات التي بدأت باحتجاجات ضد الضرائب وضد المجاعات، وأحيانا كثيرة ضد الذين تم تعيينهم لتمثيل الدولة في تلك المناطق.
قبل أن يظهر السلاح الناري، كانت الحروب تخاض بالسيوف، وسرعان ما تنتهي عندما تمطر الدولة المناطق الثائرة بجيش من الجنود المدربين لاحتواء الأوضاع، لكن مع ظهور البنادق، أصبح من الصعب التحكم في تلك الحروب. خصوصا عندما تعلم أبناء القبائل استعمال البارود، وأصبح مخزونه متوفرا للجميع تقريبا.
تقول بعض الروايات التاريخية، إن ظهور الأسلحة لأول مرة في المغرب ارتبط أساسا بالحروب التي خاضتها الدولة المغربية ضد البرتغال لصد الأطماع الأوروبية في احتلال السواحل، خصوصا الصويرة وآسفي. وتقول روايات أخرى إن توفر المغاربة على البنادق، يعود إلى ما قبل سنة 1700، وأن التجارة هي التي أدخلت هذه الأسلحة للمغرب حيث عرضت أول مرة للبيع على يد تجار قادمين من المشرق، وتم اقتناء البنادق في إطار التبادلات التجارية، وازداد عدد الحاصلين عليها في المغرب، عندما قام بعض الأوروبيين، من تجار السلاح، بتوفيرها في السوق المغربي.
لكن روايات أخرى، وهنا يكمن اللغز، تقول إن ظهور أسلحة البارود في المغرب ارتبط أساسا بالصناعة المحلية التي استغلت دخول بعض البنادق الأجنبية إلى المغرب، ليقوم بعض الحرفيين المغاربة، خصوصا في فاس، بصنع نماذج مغربية خالصة منها، ومع تقدم السنوات، أصبح الحرفيون يصنعون البندقية المغربية بزخرفات ورسومات تميزها عن غيرها من البنادق.
في السنوات التي ظهرت فيها المجاعات، خصوصا ما بعد سنة 1850، حيث كانت المجاعة الشهيرة في أيام الحسن الأول، كان المغاربة مستعدون للتخلي عن بنادقهم مقابل الطعام، وهكذا أصيبت تجارة الأسلحة في المغرب بكساد غير مسبوق أبدا في تاريخ البلاد منذ ظهور البنادق لأول مرة. الخطير في الأمر ليس تخلي الناس عن البنادق التي كلفهم الحصول عليها أموالا طائلة، لكن الخطير بالأساس هو أن البعض استعملوها للحصول على الطعام، وهكذا أصبحت أرواح الناس مستهدفة، خصوصا في الطرق، حيث كان كل من يحمل معه مؤونة أو ينقل الحبوب من منطقة إلى أخرى، مهددا بالتصفية الجسدية من بعيد، وفي أية لحظة. هذا الواقع الجديد، جعل المغاربة يتخوفون كثيرا من البنادق، لأن الوضع كان مختلفا قبل ظهورها والمواجهات التي كانت تتم، كانت تستعمل فيها السيوف، وعندما ظهرت البنادق أصبح التحكم في السلامة الأمنية أمرا مستحيلا.
هكذا تم إدخال 5000 بندقية بحرا تسببت في حرب طويلة ضد المخزن
تحدث بعض تجار الأسلحة عن صفقات مشبوهة لإدخال كمية من البنادق إلى المغرب، بطريقة غير مرخص لها، لم تكن في علم الأوروبيين وحتى المغاربة. تعود القصة إلى آخر سنوات القرن 18، حيث كان بعض التجار اليهود المنحدرين من مدينة الصويرة، يربطون علاقات واسعة مع البريطانيين. لم يكن يهم التجار المغاربة إلا الربح كما جاء في عدد من المصادر التاريخية التي تناولت العلاقات بين التجار المغاربة، خصوصا اليهود، ونظرائهم الأوروبيين عموما، خصوصا بعد بناء ميناء الصويرة وتشجيع المخزن لليهود على الاستقرار بها لمزاولة التجارة.
التسهيلات التي وضعها المخزن لتشجيع التجار على المعاملات، أيام المولى سليمان، تم استغلالها بشكل ربما لم يخطر على بال مراقبي «المخزن» وجباة الضرائب القدامى. استغل بعض التجار اليهود الثقة التي وضعت فيهم للحديث باسم المغرب مع أصحاب مخازن الأسلحة، خصوصا وأن بعضهم أشهروا في وجه الصناع الأوروبيين رسائل مختومة من طرف القصر الملكي وتحمل الخاتم السلطاني، توكل إليهم احتكار استيراد بعض السلع. هذه الرخص تم استغلالها لإثبات قربهم من السلطة في المغرب، وساعدتهم على التسلق الاجتماعي لربط علاقات مع كبار التجار الأوروبيين الذين كانوا يشتغلون في مجال التصدير.
هذه العلاقات كلها نتجت عنها صفقة غامضة، بين تجار يهود ينحدرون من الصويرة، وبين بعض التجار البريطانيين. كانت الغاية هي الربح المادي، البريطانيون كانوا متذمرين لأن الدولة منعتهم من الترخيص لبيع كمية هائلة من البنادق داخل بريطانيا، لأسباب أمنية، فكان عليهم تكبد الخسارة. بينما كان التجار اليهود يبحثون أيضا عن الربح المادي، فعرضوا عليهم تقديم مساعدة مقابل المال. وهكذا وصلت شحنة من البنادق إلى ميناء الصويرة أيام المولى سليمان، وأشهر التجار اليهود رسالة سلطانية في وجه جباة الضرائب وموظفي المخزن الذين كان لهم مكتب في مرسى الصويرة الصغير، لتسجيل الواردات والصادرات في كتاب يُرفع إلى القصر لمعرفة ما يدخل إلى خزينة البلاد من أرباح بالتدقيق. وأمام الرسالة التي كان يحملها التجار اليهود، لم يجد موظفو المرسى بدا من إخلاء الطريق أمامهم لإنزال شحنة البضائع من سفينة بريطانية تكفلت بنقل البضاعة سرا من بريطانيا. فاحت رائحة الصفقة الغامضة بين التجار اليهود وبين البريطانيين ووصلت رائحتها إلى رجال المخزن في الصويرة وتم إبلاغ القصر فورا، لكن الصفقة كانت قد تمت، وتم بيع البنادق التي وصل عددها إلى 5000 وحدة، إلى بعض القبائل في مراكش، بأمر من أحد القياد النافذين، لتسليح القبائل.
هذه فقط واحدة من المرات التي يبدو أنها تكررت، حيث دخل السلاح إلى المغرب بكميات مهمة في ذلك الوقت، قبل أن ينخرط المغاربة في التصنيع، وتصبح البنادق المزخرفة رائجة في المغرب.
قصة مثيرة لارتفاع أسعار السلاح أثناء الثورات
لم يخف أحد المبعوثين الفرنسيين، وهو صاحب المذكرات الشهيرة «مغامرات مغربية»، تخوفه من انتشار السلاح في المغرب، إذ جاء في مذكراته أن الفرنسيين كانوا قلقين من توفر القبائل على كميات مهمة من البنادق، ورغم أنها كانت محلية الصنع، إلا أنها كانت كفيلة لضمان دفاع شرس ضد تقدم القوات الفرنسية التي كانت تتوفر على بنادق ومسدسات متطورة مقارنة مع ما كان يتوفر عليه المغاربة وقتها.
في ورزازات، التي وصلت إليها القوات الفرنسية لأول مرة سنة 1919، كانت هناك مواجهات عنيفة بين جنود فرنسا، وأبناء المنطقة، وكان لاستعمال البنادق أثر كبير في صمود ورزازات لفترة، رغم أنها لم تكن طويلة، إلا أنها أسقطت قتلى في صفوف الفرنسيين، وهو ما جعل أمر التوسع صعبا. وبمجرد ما تجاوزت فرنسا مدينة ورزازات، شهدت مواجهات أعنف مع المداشر الأخرى، هذا دون الحديث عن المناطق الأخرى في الأطلس، والتي استغرقت السيطرة عليها أكثر من عشر سنوات، سقط خلالها مئات الجنود الفرنسيين.
يعود الفضل في هذا الصمود المغربي إلى استعمال البنادق. الروايات التاريخية، وحتى الصور التي التقطها الفرنسيون للأسرى المغاربة، تؤكد أن البنادق المستعملة من طرف المغاربة كانت كلها محلية الصنع، ولم يكن المغاربة يستعينون وقتها بأي بنادق أو أسلحة أجنبية. لكن بعض المؤرخين أكدوا أن تصنيع البنادق في المغرب كان تقليدا لطريقة عمل البنادق المستوردة التي ظهرت في المغرب لأول مرة. هذه النسخة المغربية من البنادق، كانت كفيلة بجعل المغرب يصمد أمام التدخل الأجنبي.
لكن المثير أن وسط هذه الحرب، لم تكن الدولة المغربية تمول صناعة البنادق رغم أن الأخيرة ساهمت في الحد من التوغل الأجنبي داخل البلاد، بل على العكس، كان المخزن يفرض ضرائب على كل الذين تتوفر لديهم بنادق، وكان الكثيرون، خصوصا أصحاب الزعامات، يمتنعون عن أداء الضريبة للدولة، ويتوعدون بحمل نفس البنادق ضدها، إن استمر رجال المخزن في مطالبة الناس بأداء ضرائب لأنهم يتوفرون على بنادق لحماية أنفسهم.
الإقبال على البنادق، كما جاء في كتاب «تاريخ الضعيف» كان كبيرا في الفترة التي كانت فيها مجاعات بعد سنوات من الجفاف. الإقبال على السلاح كان بسبب السطو على المخازن أو قيادة «الحركات» المتمردة ضد الدولة ما بين سنوات 1850 و1900. أي أن حوالي خمسين سنة، مرت كلها في الصراعات من أجل توفير الحبوب في مخازن القبائل، التي ورغم المجاعة الشديدة والجفاف، كانت مطالبة بأداء الضرائب للدولة، خصوصا في السنوات الأخيرة من أيام الحسن الأول وما بعد وفاته بفترة. هذا الأمر أدى إلى ارتفاع الطلب على السلاح، خصوصا وأن المال وقتها لم يكن ينفع في شراء الحبوب التي كانت منعدمة في السوق، فتوجه أصحاب المال إلى اقتناء الأسلحة لاستعمالها للحصول على الحبوب التي كانت مخزنة وهو ما جعل البلاد تعيش فوضى حقيقية.
المال لم يكن متوفرا للعوام، لكن الأعيان والزعامات، كانوا يتوفرون على احتياطي مهم من النقود، وقد دفعوها في تلك الفترة من أجل اقتناء البنادق للرجال لحماية حدود النفوذ. المستفيد لم يكن إلا صانعي البنادق، فيما تضرر الجميع من انتشارها في كل مكان.
يقول أحد مؤرخي بريطانيا أيام إدوارد السابع في رسالة أهداها إلى القصر بمناسبة رحلة له لاستكشاف شمال أفريقيا، بتشجيع من الدولة بعد أن حصل على منحة لهذا الغرض: «أحس أني تورطت في زيارة المغرب. لأيام طويلة لم أستطع مغادرة طنجة وفكرت في العودة إلى المركب لاستكمال الرحلة نحو الجزائر ومصر، حتى لا أضيع المزيد من الوقت هنا. أخبروني أنه يستحيل أن أتقدم خارج طنجة في اتجاه العاصمة رغم أنهم يتوفرون على الخيول. لا يمكن السفر في العربة هنا لأنهم ببساطة لا يتوفرون على عربات وحتى لو أحضرت معي واحدة فإنها ستتعرض لطلقات البنادق لأنها جسم غريب بالنسبة لهم. سيطلقون النار على العربة ويسرقون الخيول. لقد التقيت أحد الفرنسيين هنا، وتحدثت معه وأخبرني أن قطاع الطرق أصبحوا يتوفرون على البنادق، وأنهم يستهدفون حياة الأجانب بشكل كبير. أخبرني أن السفر داخل المغرب دون تنكر في لباس تقليدي، يعد انتحارا حقيقيا، لأن البارود سيستقر في صدر كل من يسافر عبر الطرق. لكني ذهبت إلى العرائش، وقضيت أسبوعا هناك، وتأكدت فعلا أن الطرق غير آمنة. في مدخل العرائش، رأيت بعيني كيف أن كل الرجال الذين كانوا يمتطون الخيول، كانوا يحملون بنادق على أكتافهم». للأسف، لم تتطرق بقية الرسالة لما إن كان صاحبها قد وصل إلى العاصمة فاس، أم أنه لم يجرب أصلا. لكن بدا واضحا من خلال كلماته الإنجليزية المنتقاة بعناية بالغة أن الرحلة لم تتم لأسباب أمنية في الغالب. لأن ما كان يقع في المغرب وقتها، كان يتطابق فعلا مع تخوفات هذا المؤرخ.
فاس.. أكثر المدن تضررا
ربما لأنها كانت وقتها عاصمة للمغرب. الأكيد أن سبب انتشار البنادق بكثرة في فاس، كان سببه اعتبارها مسرحا لكل الصراعات السياسية ومن الطبيعي، نظرا لكل الأهوال التي مرت بها في البلاد في إطار الحرب حول من يحكم، أن تكون البنادق لغة لا تعلو فوقها لغة أخرى للحوار.
لكن أكبر الصراعات كانت تجري خارج فاس وفي محيطها وليس داخل أسوارها. السبب أمني بالأساس، لأن القبائل كانت تبتعد دائما عن اقتحام المدينة وتفضل خوض الحروب والمعارك على مشارفها لاتساع المساحة، لأن الدخول إلى داخل الأسوار، يعد تطويقا حقيقيا حتى قبل بدء المعركة، ولهذا السبب كانت القرى والمناطق المحيطة بفاس، دائمة التوتر.
هنا تجربة الرحالة لاورنس هاريس، يتحدث فيها عن بندقية مغربية، كتب عليها صانعها عبارة «الجهاد» بأحجار تزين جسمها الخشبي. يتحدث هنا عن نقطة تفتيش تفرضها إحدى القرى القريبة من فاس على كل الذين يعبرونها إما قادمين من العاصمة فاس، أو في الاتجاه إليها. يقول: «أحاط بنا الرجال من كل جانب وسألونا عن السبب الذي جعلنا نجرؤ على العبور من بلدتهم. العربي تصرف كمتحدث باسمنا، وكدت أنفجر ضحكا من الأكاذيب التي كان يقولها لهم. لقد أخبرهم أنني طبيب السلطان، وأقوم بجولة بين التلال لجمع بعض الأعشاب المخصصة للدواء، ولا يجب أن أتأخر لحظة عن السلطان، لأنه سيرسل في الانتقام من جميع القبائل التي تؤخر عمل الطبيب. عندها بدأ رجال القبيلة في الاعتذار، ورافقونا إلى أعلى التلة. قائد الرجال أكد لي أنه بالتقدم إلى الأمام سأجد قبيلة «بني سعدن» ويجب أن أتوفر على أسلحة للرجال الذين يرافقونني، واقترح عليّ أن يبيعني بندقيتين قديمتين، وكان علي أن أقبل الشراء. لا يمكن أن أحصل على البارود والرصاصات. في الحقيقة كانوا يبيعون الأسلحة لشراء البارود لأنفسهم. ودعونا في أعلى التل ورجعوا تاركين العربي وبوسليم مرتاحين وفي نفسية مستقرة الآن.
واحدة من البنادق كانت مرصعة بجواهر كتب بها كلمة «جهاد». السلاح صنع من أجل دحر المسيحيين عن المغرب، وربما أنا الأوروبي الوحيد الذي يملك سلاحا من هذا النوع الآن.
بعد ثمان ساعات وصلنا إلى ضفة نهر واد سبو، ونصبنا خيامنا قرب قرية صغيرة. استقبلنا بعبوس، إلى أن فرض عليهم العربي احترام شخصي، قائلا لهم إنني طبيب السلطان. وكان علي أن أحتفظ بهذا الدور طوال الرحلة، والذي ضمن لي مكانة اعتبارية خاصة».
الإشارة هنا إلى صناعة البنادق في المغرب لدحر المسيحيين، تحيل على ما وقع خلال الحروب التي شنتها إسبانيا والبرتغال على السواحل المغربية، حيث يرجح المؤرخون أن تكون تلك الحروب أولى عهد المغاربة باستعمال البنادق، وسرعان ما انخرط الصناع في توفير بنادق مغربية فور حصول المغرب على أولى البنادق التي استعملت لدحر المد الأوروبي في سواحل الصويرة وآسفي.
هكذا ساهمت السياسة في انتشار الأسلحة و أسقط البارود آلاف القتلى
بما أنه لا توجد بالتدقيق أرقام أو إحصائيات لموظفي المخزن لضبط عدد البنادق التي كانت متوفرة بالمغرب ولا حتى أرقام تقريبية لعدد المرخص لهم بحمل السلاح، فإن تحديد الفترة التي كانت فيها البنادق تُسقط الضحايا كالذباب، يبقى رهينا بأقوى فترات التوتر بالمغرب. بوفاة المولى إسماعيل، نشبت الحرب بين أبنائه الخمسة، وكل واحد منهم ادعى أنه الأجدر بالعرش. وهكذا عاش المغرب فترة من التوتر السياسي سقط خلالها مئات الضحايا من أنصار الأبناء.
استمرت الحروب على الزعامة عشرات السنين، ورغم التغييرات التي عرفها نظام حكم العلويين من إحداث لمناصب إدارية ووزارية، إلا أن المواجهات امتدت أيضا لتصل إلى المحيطين بالسلاطين، ليصبحوا نافذين إلى الحد الذي أصبح بإمكانهم التحكم في تنصيب السلاطين.
ولم تكن هذه المعارك لتخلو من استعمال البنادق، بل إن جميع التطاحنات منذ وفاة الحسن الأول، وقبله بقليل، كانت تستعمل فيها البنادق بشكل كبير، بعد أن كان استعمالها محصورا في ثلة من المحظوظين الذين شاركوا في حروب سابقة. «تكافئ الفرص» جاء متأخرا، ولم يكن استعمال البنادق متاحا للجميع إلا بعد فترة من انحصاره بين أغنياء القبائل، خصوصا منها القبائل التي كانت تدافع عن تنصيب الصدر الأعظم وتعرض خداماتها على الملوك العلويين مقابل ضمان «البيعة» لهم وليس لإخوانهم.
منصب الصدر الأعظم، الذي شغله رجال كثيرون يتحدرون من أسر عريقة وقبائل لها أتباع كثيرون، استطاعوا وضع نفوذهم وقوتهم تحت خدمة السلاطين، وهو ما تجلى بقوة قبل وبعد وصول الحسن الأول إلى العرش. إذ استعان بآل الجامعي الذين تناوبوا على منصب الصدر الأعظم، وكانوا يتدخلون في تعيين السلطان المقبل، ويشكلون قناة الوصل بينه وبين علماء الدين وزعماء القبائل. شوكة آل الجامعي لم تنكسر إلا بوصول رجل اسمه با حماد إلى منصب الصدر الأعظم ليقطع الطريق على «الجوامعية».
ولأن المنصب كان يضع صاحبه أمام قوة كبيرة ونفوذ أوسع، فإن الوصول إليه يتطلب القضاء على المتربصين به. باحماد الذي كان حاجبا، ولم يكن أجداده بنفس عراقة آل الجامعي، قام بقتل الجامعي وسجن إخوته الذين كانوا يشتغلون وزراء في الدولة، وأوصل مولاي عبد العزيز الذي كان سلطانا فتيا منعدم الخبرة، ليسهل عليه التحكم فيه.
بعد وفاة با حماد انتقل المنصب إلى المنبهي، الذي كان مجرد مرسول من باحماد أثناء فترة مرضه وكان مكلفا بحمل الرسائل من باحماد إلى السلطان وينتظر الرد عليها ليعود به إلى سيده. لكنه كان من الذكاء بالقدر الذي سمح له باستغلال تردده على السلطان لشغر منصب سيده والتربع على وزارة الدفاع والصدر الأعظم.
العداوات التي دخل فيها مع وزراء السلطان وبعض العلماء جعلته يهوي من منصبه حيث حيكت ضده مؤامرة حبكت بعناية أثناء سفره إلى إنجلترا لتمثيل السلطان في أحد المناسبات، لكن الحرب ضد «بوحمارة» وفشله في احتوائها، هي العامل الرئيسي الذي أدى إلى إعفائه من منصبه، لتعرف البلاد بعدها حربا طاحنة بين مولاي عبد العزيز ومولاي عبد الحفيظ. علقت خلالها رؤوس الموالين لعبد العزيز على أسوار مدينة فاس، بعد أن وصل إليها عبد الحفيظ قادما من مراكش التي كان يقيم فيها بعيدا عن أضواء السياسة.
عبد الحفيظ كان له رجاله الذين أوصلوه إلى سدة الحكم بسلاسة، حيث وضع يده في يد «الكلاوي» الرجل المراكشي القوي الذي يحرك القبائل بإشارة من إصبعه، وأوصله إلى فاس دون أن يعترضه الفرنسيون الذين كانوا يسعون خلفه، ليسبقهم إلى فاس، في حين بقوا متربصين به في الدار البيضاء إلى أن تم إعلانه سلطانا للمغرب.
ورغم أن عبد العزيز كان خارج المغرب في تلك الفترة إلا أن أتباعه كانوا يعترضون الطرقات ويدعون الناس إلى مقاطعة مولاي عبد الحفيظ، وهو ما جعل القبائل تتصارع فيما بينها وتراق الدماء على مشارف المدن.