للدين، والتدين، والتأويل الديني، في أي مجتمع من المجتمعات علاقة وثيقة بالسلطة الاستراتيجية النافذة، وبإرادتها، وبالمسار الذي تريد للتصورات الدينية أن تتخذه، لتحقيق أهداف مختلفة.
تظل تلك حقيقة تغيب عن كثيرين، رغم أن الأدلة عليها أكثر من أن تُحصى. وعلى مر الأزمنة، كانت هناك براهين قاطعة على أن الفكر الديني الذي يسود، أو يُراد له أن يسود، في أي دولة، إنما يعبر بشكل أو بآخر عن رؤية السلطة لما يجب أن يكون عليه.
فقد اتفق قطاع كبير من علماء الاجتماع النابهين على أن الدين، أو التصورات الدينية السائدة، إنما هي جزء فعال من آليات الضبط الاجتماعي، التي تساعد السلطة على تحقيق السلم الأهلي، والتماسك الاجتماعي، أو توظيفها لتحقيق مصالح عديدة.
وعندما تتحدث سلطة استراتيجية ما عن ضرورة «تغيير الخطاب الديني» أو «تجديده»، فإنها تعني بالضرورة تغييرا في الفكر الديني، وبالطبع فإن هذا الأخير سيليه تغير في المفردات والخطابات التي تعبر عنه أو تستهدف شرحه ونقله إلى الناس.
لقد كانت منطقتنا، مثل مناطق أخرى عديدة من العالم، موضعا لتأويلات دينية متباينة، تغيرت باستمرار بموازاة قرارات السلطة الرامية إلى إحداث تغيير اجتماعي وثقافي ما.
ومن ذلك، ما جرى مثلا حين لقب الرئيس السادات نفسه بـ«الرئيس المؤمن»، وتحدث عن مصر بوصفها «دولة العلم والإيمان»، وأفسح المجال أمام تنظيم «الإخوان» للعب دور سياسي واسع يخصم من رصيد الناصريين وقوى اليسار، ومنح المنابر لطائفة من الدعاة الذين ركزوا على فكرة «الغرب الذمي المؤمن بالله» في مواجهة «السوفيات الشيوعيين الملحدين»، وأجرى تغييرا دستوريا يصب في اتجاه «تديين الدولة»، وعزز مظاهر التدين الطقوسي في المجتمع.
لقد حدث مثل ذلك أيضا عندما اتفقت أنظمة عربية وإقليمية على تسويق فكرة «الجهاد»، لكي يتدفق «المقاتلون العرب» على أفغانستان لمواجهة الاتحاد السوفياتي «الكافر» تحت «راية الواجب الديني».
يحدث مثل ذلك باستمرار في منطقة الشرق الأوسط التي لم تجد طريقها إلى الحداثة بعد، ولم تتأصل فيها أفكار الدولة المدنية الديمقراطية العلمانية، ولم تترسخ فيها فكرة المواطنة.
يأتي هذا معاكسا تماما لما فعله أتاتورك في تركيا، حين استخدم «استراتيجية السلطة» من أجل أن يزيل آثار «الخلافة الإسلامية» في بلاده، ويبني دولة علمانية، على أسس تم بثها وترسيخها في المجال العام، بالمخالفة لما جرى على مدى قرون.
وفي هذا الصدد، لم يكن ما فعله أردوغان من محاولة إعادة إحياء النزعة السلطانية المتدثرة بالدعاوى الدينية سوى رد فعل مضاد لما كان أتاتورك قد فعله سابقا.
وهو ما يعاكس أيضا ما كان قد سبقه إليه الحبيب بورقيبة في تونس، وسعى إلى بعضه جمال عبد الناصر في مصر، في مواجهة مفتوحة مع «استراتيجية سلطة» مناوئة في الخليج العربي سادت آنذاك.
وفي الثمانينيات الفائتة، ازدهرت استراتيجية سلطوية في العالم العربي تحت شعار «الصحوة»، لتنجح في تكريس حضورها ونفوذها الطاغي، وتتخذ مظاهر اجتماعية طقوسية محددة، ثم لم تلبث أن امتدت إلى المجال السياسي لتنتج تنظيمات وأحزابا ومراكز قوى سياسية واقتصادية مؤثرة، ما زالت قادرة على المنافسة على الحكم حتى اليوم في بعض الدول العربية والشرق أوسطية.
لكن السلطة الاستراتيجية في بعض البلدان التي حافظت على نهج محافظ لعقود طويلة، ترى اليوم أن هذا النسق «الصحوي» أو «الطقوسي» أو «المتزمت» لم يعد متسقا مع القيم العالمية التي تحظى بالقدر الأكبر من التوافق، ولم يعد قادرا على النهوض بعبء الضبط الاجتماعي المطلوب، بل إنه أيضا أضحى مناهضا لمتطلبات تنموية ترتكز في نزوعها إلى التحقق على الانفتاح والتسامح وقبول الآخر.
بسبب هذه العوامل مجتمعة، يتحدث علماء دين، ومفكرون، وإعلاميون بارزون، عن ضرورة بناء نسق جديد للفكر الديني السائد؛ وهو نسق يبدو أقل انغلاقا وتزمتا، وأكثر انفتاحا واتساقا مع منظومة قيمية عالمية تحظى بالاحترام في بقاع عديدة من العالم.
وعندما يتحدث هؤلاء العلماء والمفكرون عن الأفكار «الجديدة»، التي تناقض الفهم السائد لدى قطاعات من الجمهور الأكثر محافظة، يحدث الصدام، وتتطاير شظاياه، لتصف بعضهم بـ«الكفر» أو «التهتك» أو «البحث عن الشهرة» على حساب «ثوابت الدين وركائزه».
ستكون تلك معركة طويلة، لأن ما استثمرت فيه السلطة الاستراتيجية الشرق أوسطية لعقود بات على محك التغيير وبرسمه، والأمل أن يحدث هذا التغيير بأقل قدر من الخسائر، وبوتيرة غير صادمة لمشاعر بعض المتشبثين بالتأويلات السابقة.
نافذة:
عندما تتحدث سلطة استراتيجية ما عن ضرورة «تغيير الخطاب الديني» أو «تجديده» فإنها تعني بالضرورة تغييرا في الفكر الديني وبالطبع فإن هذا الأخير سيليه تغير في المفردات والخطابات