«البيرة» حرام وفلوسها حلال
مشروع قانون المالية لسنة 2016، الذي سيعرض على البرلمان للتصويت، يكشف بشكل جلي نفاق الحزب الذي يقود الحكومة.
فبعد رفض الحكومة التجاوب مع مقترح تعديل تقدمت به فرق المعارضة، خلال السنة الماضية، برفع قيمة الضرائب على الخمور والمشروبات الكحولية، قدمت حكومة بنكيران النصف ملتحية، هدية أخرى إلى شركات صناعة «البيرة»، من خلال تنصيص قانون المالية لسنة 2016، على تخفيض معدل الضريبة على القيمة المضافة المطبقة على استيراد الشعير الموجه لصناعة الخمور، من 20 إلى 10 في المائة، مقابل رفع قيمة الضريبة نفسها على مادة الشعير الموجه إلى الاستهلاك.
وهكذا فالشعير الموجه للاستهلاك البشري والحيواني، خصوصا في العالم القروي، سيتم الرفع من ضريبته، فيما الشعير الموجه لشركات صناعة البيرة، خصوصا شركة «براسري المغرب»، فإن ضريبته ستنخفض.
ويبدو أن هناك حرصا كبيرا من جانب حكومة بنكيران على عدم المساس بمصالح شركات إنتاج الخمور، والتبرير الحكومي لهذا الحرص هو أن الرفع من الضريبة على الخمور سيؤدي إلى رفع أسعارها، وبالتالي سينزل منسوب استهلاكها، ما ستفقد معه خزينة الدولة عائدات ضريبية مهمة.
وهكذا، ففي موضوع الخمور يتعامل الحزب الإسلامي الذي يقود الحكومة بمنطق «الذيب حرام ومرقتو حلال». فهو يقدم العظات في خطب قادته حول أضرار الخمور على الصحة والمجتمع، في الوقت الذي يسيل لعابه لعائدات الخمور الضريبية التي «تنشط» الخزينة.
ولهذا السبب نفهم لماذا اقترحت الحكومة في المادة 121 من مشروع قانون المالية لسنة 2016، توحيد الضريبة على القيمة المضافة المطبقة على استيراد الشعير والذرة، حيث تخضع عمليات استيراد الشعير والذرة، حاليا، للضريبة على القيمة المضافة بثلاثة أسعار مختلفة، وهي 0 في المائة عندما يوجه الشعير والذرة للاستهلاك الإنساني، و10 في المائة عندما يوجه لتصنيع أعلاف الحيوانات، و20 في المائة بالنسبة للاستعمالات الأخرى بما فيها صناعة «البيرة».
غير أن ما لم تنتبه إليه الحكومة هو أن توحيد سعر الضريبة سيلحق أضرارا بالفئات التي تستهلك الشعير والذرة في التغذية، والتي تستفيد حاليا من الإعفاء الضريبي، ومن شأن تطبيق معدل ضريبة في حدود 10 في المائة أن يفضي إلى الزيادة في أسعار هذه المواد ابتداء من شهر يناير المقبل، عندما يدخل قانون المالية حيز التطبيق.
وربما يجهل رئيس الحكومة أن المغرب يستورد أغلب حاجياته من مادة الشعير من الخارج، وأن المغاربة الفقراء هم أكثر الفئات استهلاكا لهذه المادة في حياتهم اليومية، فلماذا سينحاز رئيس الحكومة في قانون ماليته إلى جانب أثرياء تجارة الخمور عوض أن ينحاز نحو الفقراء؟
الجواب بسيط وواضح، فهذه الحكومة أصبحت في خدمة الرأسماليين من كل نوع.
فحزب التقدم والاشتراكية، الذي يعتبر الزائدة الدودية للحزب الحاكم، ليس سوى حزب رأسمالي يدافع عن كبار الإقطاعيين الأوليغارشيين، عوض الدفاع عن مصالح المسحوقين والعمال الذين يتباهى بقبضاتهم المعقودة في منشوراته البالية.
فأمينه العام نبيل بنعبد الله، الذي دخل الحكومة فقط لكي يحصل على راتب سمين يكمل به ورش بناء فيلته المتوقفة بعد طرده من سفارة روما، فعل كل ما بوسعه لكي يستجيب لمطالب رفاق أخيه المهندس، حتى يصبح من حق المدارس الخصوصية تدريس الهندسة ومنح شهادات المهندسين مقابل الدراسة بالأداء، إرضاء لأصحاب رأس المال الذين يودون الاستثمار في المجال.
ورفيقه الوردي «البناج»، وزير الصحة، فعل المستحيل لكي يفتح القطاع أمام أصحاب «الشكارة» لكي ينافسوا الأطباء في بناء المصحات والمركبات الطبية.
وها هو اليوم رفيقهم الثالث وزير الثقافة، ولد الباشا الصبيحي، يجتهد لمنح الوصاية لشركات أجنبية لاستنزاف ما تبقى من تاريخ وتراث وثقافة المغاربة، بعدما تم استنزاف جيوبهم.
«تبارك الله على الشيوعيين، تلات بيكم ليام حتى وليتو خدامين عند الرأسماليين»، وهذا ليس غريبا على حزب سكت عن احتلال أمريكا الرأسمالية للعراق الشيوعي، وكان جزاء الحزب أن استقبل بوش الأب أمينه علي يعتة في البيت الأبيض ومنحه مطبعة لجريدته، هي ذاتها المطبعة التي تصدر «بيان» نبيل بنعبد الله الذي لا يقرؤه أحد.
وعوض أن يقف رئيس الحكومة في وجه لوبيات الخمور ويفرض عليهم المزيد من الضرائب لخفض الاستهلاك، وبالتالي حماية المجتمع من الأضرار الخطيرة التي تتسبب له فيها الخمور، يفضل حماية مصالح هذه اللوبيات.
فقد وصلت مبيعات هذه الشركات إلى حوالي 38 مليون «قرعة» من «الروج»، أما «البيرة» فحدث ولا حرج، فقد باعت شركة «براسري دي ماروك»، خلال سنة واحدة، 400 مليون ما بين «قرعة» و«كانيط». أما «الويسكي» و«الفودكا» فيشرب منهما المغاربة حوالي مليونين ونصف مليون «قرعة».
وحسب العارفين بهذا الميدان، فالسبب الرئيسي الذي جعل مبيعات «الفودكا» تتحسن في المغرب هو إقبال المزيد من النساء والشباب على هذا المشروب في السنوات الأخيرة.
أما «الشامبانيا» التي تساوي كل قنينة منها ألفي درهم، أي معدل دخل الطبقة الوسطى في المغرب كل شهر، فيفتح منها المغاربة 140 ألف قنينة سنويا، بمعنى أن المغاربة يشربون في السنة الواحدة ما معدله 131 مليون لتر من الخمور بكل أنواعها، بمعدل أربعة لترات فاصلة ثلاثة في السنة لكل مواطن، وهي نسبة تفوق بكثير معدل الاستهلاك السنوي للمغاربة من الحليب.
والخطير في كل هذه الإحصائيات هو أن استهلاك الخمور في المغرب يرتفع سنويا بمعدل يتراوح ما بين ثلاثة وستة في المائة، وهو معدل مخيف إذا قارناه بنسبة تراجع استهلاك الخمور في الدول الأوربية، خصوصا في صفوف الشباب والنساء.
ونحن هنا نتحدث عن «الترويج» حسب الأرقام الرسمية التي تعرف بها الدولة، أما إذا أردنا أن نتحدث عن زبناء «الكرابة» الذين يشترون الخمور المهربة التي تأتي من سبتة، وتمر من تحت أنف رجال «الديوانة»، فإننا بلا شك سنعثر على رقم مهول يبعث على الرعب.
وهناك أيضا طبقة أخرى من المغاربة تستهلك «الماحيا» التي يعصرها من «الشريحة»، متخصصون في المنازل ويبيعونها تحت المعاطف. ففي المغرب كل واحد يسكر حسب إمكانياته. وإلى الآن، لازال هناك مغاربة يسكرون بقراعي «الريحة مولات إطرو»، أو ما يسمونه «ريحة الشابو»، نظرا لمزاياها «المزنزنة».
وإذا كان القانون المغربي متساهلا مع شركات إنتاج الخمور، فإن هناك اليوم في فرنسا وإسبانيا حملات شرسة ضد هذه الشركات، خصوصا تلك التي لا تحترم قوانين الاستهلاك المشددة. كما أن هناك عقوبات صارمة تترصد الأسواق الممتازة ومحلات بيع الخمور والملاهي والمطاعم إذا ما غامرت ببيع المشروبات الروحية للقاصرين أو مستعملي الطريق.
والسبب هو أن كل الدول الغربية، العلمانية في أغلبها، اقتنعت بأن استهلاك الخمور يتسبب في كوارث اجتماعية وصحية خطيرة، ولذلك شددت الخناق على شركات إنتاج الخمور وأصبحت تفرض عليها دفع إعانات مالية سخية لمختبرات البحث حول الأمراض السرطانية، مثلها مثل شركات التبغ، بحكم مسؤولية هذه الشركات المباشرة عن إصابة المواطنين بهذا المرض القاتل.
وحتى مرور إعلانات شركات الخمور في الإعلام يخضع لرقابة صارمة، وكل شركة تريد نشر إعلان لخمورها ملزمة بالإشارة إلى كون مشروبها يمكن أن يتسبب لمستهلكه في أمراض سرطانية، ولذلك تنصحه باستهلاكه باعتدال.
عندنا في المغرب، البلد المسلم الذي يمنع قانونه إشهار الخمور وبيعها للمسلمين، تنشر المجلات المغربية باللغة الفرنسية كل أسبوع إعلانات ملونة لـ«الفودكا» و«الويسكي» و«الروج»، بدون أية إشارة إلى المخاطر الصحية التي يمكن أن تتسبب فيها هذه المشروبات لمستهلكيها.
وعندنا في المغرب لم نسمع يوما أن شركة «براسري دي ماروك» أو واحدة من شركات «زنيبر» أو «هضاب الأطلس» أو «تولال»، فكرت في المساهمة لصالح مراكز العلاج المتخصصة في أمراض السرطان، مع أن هذه الشركات تتحمل المسؤولية المباشرة عن ارتفاع حالات سرطان الكبد والجهاز الهضمي والحنجرة لدى المغاربة.
الإعلام العمومي ضميره مرتاح من هذه الناحية، فحسب الرواية الرسمية فكل هذه الملايين من اللترات يستهلكها السياح الأجانب وغير المسلمين. «على هاد الحساب فتنا عشرة ملايين سائح شحال هادي».
أما في الإعلام المكتوب، فهناك خوف مزمن عند أغلب الصحافيين من الاقتراب من هذا الموضوع خشية أن يخرج لهم من ينعتهم بالإسلاميين و«الخوانجية».
وبالنظر إلى هذه النسبة المخيفة التي يستهلك بها المغاربة الخمور، والتي تتطور سنة بعد أخرى، فيجب أن يكون موضوع استهلاك الكحول الشغل الشاغل لكل الطبقة السياسية بمختلف توجهاتها، لأن الأمر يتعلق بالصحة العامة وليس فقط بقضية دينية أو أخلاقية.
ارتفاع استهلاك الخمور سنويا بستة في المائة يجب أن يستنفر جميع جمعيات مكافحة السرطان وأمراض السكري والكبد، لأن معركتها الحقيقية ليست فقط ضمان التكفل بالمرضى، وإنما أيضا الحد من جبروت هذه الشركات المتوحشة التي تغزو بمشروباتها البيوت والأزقة والأسواق التجارية، دون أن يكون هناك من يوعي المغاربة بمخاطر هذا الغزو الصامت الذي يدمر حياتهم وحياة أبنائهم.