البيان الذي أغضب الرئيس
لم يقدر الرئيس الجزائري هواري بومدين على إخفاء تذمره وغضبه. قال، على حد رواية معارض جزائري كان يتردد كثيرا على المغرب، إنه التفت إلى جانبه يمينا وشمالا، باحثا عن طوق نجاة، أو مبرر يقلب به الطاولة على الجميع، ثم صاح إنه لا يتصور شخصا أو جماعة من المسؤولين الجزائريين الحاليين أو السابقين يغدرونه من الخلف.
أراد المشاركون في اجتماع انعقد على عجل في قصر «المرادية» التخفيف من توتره الذي كان بلغ مداه، فرد عليهم مزمجرا: «هل قرأتم البيان؟». كان السؤال أشبه بماء صقيعي صب على الأجساد. وهل يستطيع أي بيان، مهما كان مصدره ومضمونه، أن يوصل الرئيس إلى درجة الغليان الذي يفقد فيه المرء قدرته على ضبط النفس؟
تراجع منسوب الارتياب في الأسباب التي جعلت الرئيس بومدين يخرج عن صوابه. ففي النهاية يمكن الرد على أي بيان بإصدار آخر مضاد في لهجته ومضمونه. لولا أن الأمر كان يتعلق بنوع من التمرد الداخلي على السياسة التي تنهجها الجزائر. وقال المعارض الجزائري إن الرئيس كان في وسعه أن يبلع أي انتقاد ضد سياسته في المسائل الداخلية، بما في ذلك الثورة الزراعية التي أفقرت المزارعين، والثورة الثقافية التي ستنتج في الآتي من الزمن فلول المتطرفين، بل إنه كان يستطيع أن يجادل في خيار الاشتراكية ونهج الصناعة الضخمة التي كانت بلا أسواق.
لكنه لا يتقبل أن تكون سياسته إزاء المغرب تحديدا، موضع نقاش، فقد كان على قناعة بأن كل ما يفعله سيؤهل الجزائر لأن تصبح رائدة في منطقة الشمال الإفريقي، تفرض صوتها ورؤيتها على الجميع، وكان مهتما بما كان يعتبره سياسة إضعاف المغرب، كي لا ينافسه في مشروع أحلامه الذي لم يتحقق. كان ينظر إلى جارتيه الشرقيتين تونس وليبيا بمنطق التأثير عليهما، وإن كان يحذر الزعيم الحبيب بورقيبة في تمسكه باستقلالية القرار التونسي، ولا يجاري العقيد القذافي في كل مغامراته، إلا بالقدر الذي يجعله ينوب عنه في فعل ما لا يرد أن يحسب على بلاده.
ماذا في البيان إذن؟ وأي ذبابة لسعت الرئيس فلم يعد قادرا على استيعاب أي شكل من أشكال النقد؟ هيمنت الاستفسارات على العقول، فالجزائر التي سيجت نظامها بحواجز حماية الثورة، تعتبر كل خروج عن ضوابط التأييد والمساندة المطلقة، لابد أن تكون وراءه مؤامرة «إمبريالية» وليس مثل القادة العرب ذوي الخلفيات العسكرية من يعتبرون تغيير أحوال الطقس مؤامرة، أو ينظرون إلى ارتفاع أصوات غاضبة نوعا من المؤامرة الخارجية.
عندما أطاح وزير الدفاع هواري بومدين برئيسه أحمد بن بلة في صيف العام 1965، بدا مطمئنا إلى اجتثاث منابع المعارضة، خصوصا تلك التي يقودها زعماء تاريخيون. وعلى قاعدة الثورة تأكل أبناءها سبقه أحمد بن بلة إلى نفي وسجن رفاقه، فيما تولى بومدين البقية الباقية. فقد توزع زعماء الثورة الجزائرية كما في الدماء على القبائل، البعض اختار حياة المنفى الاضطراري، والبعض مكث في سجن بلاده، والبعض كان نصيبه التصفية الجسدية.
لكن زعيما من طراز فريد صعب على كل هذه المعادلات، نظرا لسمعته ونفوذ شخصيته المؤثرة والتزامه الواضح بالدفاع عن قضية الجزائر وفكرة البناء المغاربي. وبقي رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة فرحات عباس مخلصا لمبادئه، لم تزحزحه إغراءات ولا تمكنت منه ميولات في غير قناعاته التي لم تتغير. كان رجل دولة بامتياز يقيس الأشياء والمواقف بمدى قدرتها على بناء استقلال جزائر متحررة، لا تعادي أحدا ولا تناوئ جارا، ولا تخوض معارك غير معنية بجني ثمارها لفائدة الشعب الجزائري.
من حصار الصمت والتوجس، اختار الرئيس فرحات عباس أن يوجه نداء إلى الشعب الجزائري، في شكل بيان يحفل بالعبر والتمنيات. ففي مارس 1976 نشر بيانا وقعه إلى جانبه كل من الشيخ محمد خير الدين، عضو المجلس الوطني لقيادة الثورة الجزائرية، وحسين الهويل السياسي المخضرم، وقائد أحمد، المسؤول في جبهة التحرير الجزائرية، يدعو فيه القيادة الجزائرية إلى التصرف بحكمة لحقن دماء الأشقاء.
جاء في البيان أن دماء أبناء الشعب الجزائري لا يمكن أن تهدر في نزاع مع أشقائهم المغاربة الذين بادلوهم كل مظاهر الدعم والمساندة إبان مرحلة الكفاح المشترك. وأبدى البيان مزيدا من الأسف والاستنكار حيال إقدام السلطات الجزائرية على طرد عشرات الآلاف من المواطنين المغاربة الذين كانوا يقيمون في الجزائر. لكنه حذر من مغبة التهور، مشيرا إلى أن المواجهة العسكرية بين المغرب والجزائر لا يمكنها إلا أن تتمدد لتشمل كافة فضاءات المنطقة المغاربية وامتداداتها الإفريقية. والأهم أن نداء العقل تزامن مع المواجهة العسكرية التي كانت «أمغالا» مسرحا لها في نفس الفترة. ولعل ما أغضب الرئيس هواري بومدين أنه كان يخطط لحرب أكثر اتساعا، لولا أن قدراته كانت أقل من طموحاته الهوجاء.
يقول المعارض الجزائري إن ما أغضب بومدين أن يكون معارضه رئيس حكومة سابق يتمتع بشعبية واسعة، وقد أسقط في يده، جراء ذلك الموقف النبيل الشجاع.