البيئة والكهرباء
أحمد مصطفى
تتبارى دول العالم في الإعلان عن أهداف طموحة لخفض الانبعاثات الكربونية المسببة للاحتباس الحراري، والمسؤولة عن التغيرات المناخية لكوكبنا.
وكما يقول المثل «متأخرا أفضل من لا شيء»، فلعل التحرك العالمي ينقذ الأرض من مصير لا يعلمه إلا الله، لو استمر تلويث البيئة بالمعدل الذي نعاني منه، خاصة مع زيادة عدد سكان الكوكب. بالطبع كل ما يفيد في الحفاظ على استدامة الكوكب أمر جيد، ولا خلاف حوله بالتأكيد.
الملاحظ أن الدول الأكثر تلويثا للمناخ الجوي، نتيجة صناعاتها التقليدية الكثيفة الانبعاثات الكربونية، مثل الولايات المتحدة والصين وبعض الدول الصناعية الكبرى الأخرى بدأت تضع مواعد لتقليل الانبعاثات الكربونية بنسبة جيدة. وهذا مبشر، سواء بمن يحدد 2030 أو 2050 كموعد لخفض الانبعاثات إلى الصفر أو إلى نسب متدنية جدا تقلل من مخاطر التغيرات المناخية. كل هذا محمود ومبارك من قبل من يهتم بمصير هذا الكوكب، وقدرة البشر على العيش فيه، واستدامة موارده المسخرة لهم.
الملمح الأهم في تلك الخطط والسياسات والأهداف محددة المواعد، هو تغيير مصدر الطاقة لوسائل النقل الخفيفة والمتوسطة، بحيث تصبح كلها «كهربائية». وأعلنت أكثر من دولة متقدمة عن توقف بيع السيارات، التي تعمل بالديزل والبنزين، بعد عدة سنوات قليلة في حدود نحو عقد من الزمن. لكن هل سيعني ذلك أن البنزين ومشتقات النفط الأخرى ستختفي؟ بالطبع لا. بل إن الطلب على النفط آخذ في الزيادة، وإن بمعدلات نمو أقل من السابق، ليتجاوز مائة مليون برميل يوميا وأكثر.
أما أن يهرع العالم نحو المركبات الكهربائية، فالأرجح أنه «تغيير نمط استهلاك» أكثر منه عامل مؤثر بشدة في مكافحة الإضرار بالبيئة. فالتوسع في السيارات الكهربائية سيعني مضاعفة استهلاك العالم من الطاقة الكهربائية. وحتى الآن، تعمل أغلب محطات توليد الكهرباء بمشتقات البترول، وقليل منها بالغاز الطبيعي. بل إن بعض محطات الطاقة ما زالت تعمل بالفحم، حتى في ألمانيا والولايات المتحدة والصين، وينتج عنها كميات أكبر من أول أوكسيد الكربون (عامل التلوث البيئي الرئيسي) أكثر مما ينتج عن محطات الطاقة التي تعمل بمشتقات البترول.
صحيح أن العالم يتجه أكثر نحو الطاقة النظيفة المستدامة صديقة البيئة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وحتى الطاقة النووية، لكن حتى الآن لا تشكل مصادر الطاقة تلك ربع استهلاك العالم من الكهرباء. ورغم أن عددا من شركات الطاقة الكبرى بدأت تستثمر في المصادر المستدامة قليلة أو معدومة الانبعاثات الكربونية، إلا أن ذلك لم يعوض كثيرا من الاعتماد على النفط في توليد ما يحتاجه العالم من كهرباء. ثم إن كل التطور التكنولوجي الذي قد نحسبه «موفرا» للطاقة، هو في الواقع يضيف ضغطا صعوديا للطلب على الكهرباء. ولعل من أشهر الأمثلة العملات المشفرة، التي تحتاج عملياتها من «تعدين» وتداول على شبكة بلوكتشين إلى كميات هائلة من الطاقة الكهربائية. على سبيل مثال يستهلك تعدين بيتكوين وحدها ما يعادل أكثر من استهلاك بلد بالكامل كهولندا من الكهرباء.
لذا، تسعى البشرية إلى تطوير إمكانيات الاستفادة من مصادر الطاقة المستدامة كالشمس والرياح وغيرهما. ونرى تجارب لتسيير الطائرات والسفن باستخدام الطاقة الشمسية، وإن كانت تلك التجارب ما زالت تواجه تحديات تخزين تلك الطاقة. من هنا يتوقع أن يكون مجال البحث والتطوير في صناعة البطاريات العملاقة الأكثر نموا في السنوات القادمة. فالطاقة من الشمس والرياح تحتاج إلى تخزينها ونقلها، وهذا ما يعمل عليه المبتكرون حاليا.
إنما المحصلة، أن زيادة الطلب العالمي على الكهرباء لا يعني حتى الآن تقليل الأضرار البيئية، فلا يزال توليد الكهرباء يعتمد على محطات ترسل انبعاثات كربونية في الغلاف الجوي. حتى تطوير محطات الطاقة النووية له حدود، فخام اليورانيوم في الطبيعة ليس بالكثير عموما. ينطبق الأمر نفسه على الليثيوم المستخدم في بطاريات تخزين الطاقة من المصادر المستدامة. لذا، نشهد صراعا مكتوما بين الصين والولايات المتحدة أساسا، ولاعبين آخرين على ما تسمى «المعادن النادرة» في الطبيعة. فهي مكون أساسي في التوجه الجديد، ليس فقط في توليد وتخزين الطاقة، وإنما أيضا في كافة الصناعات التكنولوجية.
كل هذا بالنسبة إلى الانبعاثات الكربونية، إلا أن هناك مخاطر بيئية أخرى لكثافة استخدام الطاقة الكهربائية، منها ما يتم اختباره من احتمالات تأثير المجال الكهرومغناطيسي على الصحة العامة، وتتباين بشأنه الآراء العلمية، ومنها ما يمكن أن يظهر بعد ذلك. ولا شك أن قوافل البحث والتطوير تختبر ذلك الآن، مع زيادة اعتمادنا أكثر فأكثر على الكهرباء، كي لا نكتشف أننا نضر البيئة من حيث نريد أن نحميها.