خالد فتحي
هل تضاهي البوليساريو إسبانيا وزنا ومكانة دولية، كي تقطع العلاقة معها؟ وهل تعتقد نفسها دولة قائمة، حتى ينجم عنها مثل ذلك البيان الغريب الذي أطلقته من الجزائر.
إنه فعلا زمن التفاهة والإسفاف والعجائب، وزمن المضحكات المبكيات؛ أن تتطاول جبهة وهمية إلى هذا الحد، فتدعي لنفسها هذه الندية في التعامل مع الدول. أم هو مجرد تمرد من كان له دالة خاصة على طرف كان عزيزا لديه، لكنه قرر فجأة أن يهجره ويضع حدا لعلاقته معه؟
إن لهذا البيان معنى واحدا لا غير، وهو أن البوليساريو فقدت البوصلة، وصارت تتخبط من فعل الصدمة، بعدما دقت ساعة الحقيقة، وانكشفت هي والجزائر، وضاقت الخيارات أمامهما، وشاهدا بأم عينيهما انهيار المشروع الانفصالي الذي ظلا يحلمان به.
البوليساريو التي يعرف الجميع أنها صناعة الجزائر وإسبانيا، تصرخ الآن وتبكي بفعل فجيعة اليتم التي حلت بها على حين بغتة، وهي في الحقيقة تندب بهذا البيان حظها البائس، مثلما يفعل في النهاية كل الخونة والعملاء، لأنها تتوقع مع تنصل إسبانيا منها، أياما عجافا ستودي بها لا محالة إلى الاضمحلال والهلاك.
هي تتخوف أن يكون تخلي إسبانيا عنها، مقدمة لأن تفقد راعيتها الأولى الجزائر. فلقد كانت مستوثقة من الموقف الإسباني القديم، ولا تظنه قابلا للتحول إلى درجة أن هذا التحول يصيبها الآن بالرعب، ويجعلها تتخيل اليوم الذي يتغير فيه نظام العسكر، أو تتحول فيه العقيدة العسكرية بالجزائر إلى الإقلاع عن معاكسة المغرب في حقه التاريخي. وما يرعب البوليساريو هو فهمها أن كل شيء ممكن، وأن الاعتراف الإسباني سيكون له تأثير الدومينو في الاتحاد الأوروبي وأمريكا اللاتينية وإفريقيا، التي ستتقاطر بلدانها لأجل فتح قنصليات بالجنوب المغربي، وأن البوليساريو قريبة ستنظر إليها الجزائر على أنها قد صارت حصى في حذائها، لا في حذاء المغرب.
لقد دخلت البوليساريو في هذيان منظم، منذ أن مرت الدبلوماسية المغربية إلى السرعة القصوى، وبدأت الأرض تهتز اهتزازا تحت أرجلها… أرض الجزائر طبعا. لقد خاضت حرب بيانات وبلاغات، منذ طرد الجيش المغربي البطل مرتزقتها من معبر الكركرات، ادعت فيها أنها قد عادت إلى الحرب، وأنها بصدد تكبيد المغرب خسائر فادحة. هجمات دونكيشوتية يعرف العالم بأسره، أنها للتنفيس عن العزلة والإحباط لا غير.
أكبر خوف لدى قادة البوليساريو هو ما عبرت عنه في بيانها الأخير ببلاغة المفجوعة المنهارة، من أن إسبانيا قد تخلت عنها وتركتها لمصيرها. وهنا تقر ضمنا أنها كانت صناعة وأرنبا لإسبانيا، وتقر أيضا أنها فقدت جزءا كبيرا من أسباب عيشها، وأنها تسير نحو طريق مسدود.
فهل كانت تحتاج إلى مثل هكذا بيان لتعليق اتصالاتها بمدريد، فإسبانيا وأمام أنظار كل العالم، هي من أدارت ظهرها لها، لأن علاقتها معها صارت أكثر من سامة بالنسبة إليها، بل ولقد تكبدت بسببها أزمة عمرت لما يقرب السنة مع جارها الجنوبي المغرب، كان لها تداعيات ومضاعفات كارثية على شعبها ونخبها الاقتصادية، وقد كانت في غنى عنها.
إنه لمن البله أن تظن البوليساريو أن بلاغها ستعبأ به إسبانيا، ولعلها تريد أن تسترحم قلوب بعض الأحزاب السياسية الإسبانية، لكي تتم مراجعة الموقف الإسباني الشجاع. فهل رأت الولايات المتحدة على عهد بايدن أن تراجع قرار ترامب، وهل تردد بلينكن في تأكيد موقف بلاده هنا في المغرب وهناك بالجزائر، حتى تقوم إسبانيا بذلك؟ هل عادت ألمانيا إلى الوراء؟
مصيبة البوليساريو أنها لا تلتقط الإشارات، وأن بصيرتها تعمى عن التحولات العالمية الجارية التي تجعلها على الهامش. فتزيد من تأخرها في قبول حل الحكم الذاتي الذي لن يبقى له أي معنى، إذا كانت الجزائر هي آخر من يقبل به على الركح الدولي.
كذلك لا ندري سر هذا الغباء الذي يجعل الجبهة الانفصالية لا تفهم أن إسبانيا تريد تعليق الاتصالات هذا، وتتمناه من صميم قلبها، فهي لم تعد تريد خطابا انفصاليا على أرضها، وإن كان يستهدف غيرها، لأنها لا تأمن شر العدوى. زد على ذلك أنها صارت ترى آفة الانفصال رديفة لآفتي التطرف والإرهاب. ولذلك ستراهن على دولة مستقرة آمنة، لا يعاني نظامها أزمة شرعية. بل ولقد غيرت عقيدة أمنها القومي إلى الأبد، معتبرة أنها كانت مخطئة في اعتبارها أن قوة إسبانيا تستلزم مغربا ضعيفا، معوضة إياها برؤية استراتيجية حكيمة، ترى الآن أن إسبانيا قوية تكون بمغرب قوي. لو فهمت البوليساريو أن القرار الإسباني قرار للدولة العميقة، لما أهانت نفسها بهكذا بيان.
إن إسبانيا هي ملاذ عناصر البوليساريو، وملاذ أيضا لجنرالات النظام الجزائري، وإسبانيا هي من تعرف الحسابات ومن تضع السيف على عنق عناصر البوليساريو، ولذلك لا يعدو أن يكون هذا البيان سوى صرخة في واد، ونكتة تحاكي بها جبهة انفصالية سلوك وصولة دولة لا توجد إلا في خيال الجزائر الآن. إننا لنرى في التصرفات الأخيرة للجبهة، ومنذ بداية الجائحة خلال السنتين الأخيرتين، ومنها بيانها الغث الهزيل الخاص بإسبانيا، مجرد تلك الحشرجات التي ترافق عادة لحظات النزع الأخير.
نافذة:
مصيبة البوليساريو أنها لا تلتقط الإشارات وأن بصيرتها تعمى عن التحولات العالمية الجارية التي تجعلها على الهامش