شوف تشوف

الرئيسية

البشير لعلج.. رائد المسرح الساخر الذي مات مرتين

كوميديون وهبوا حياتهم لإسعاد المغاربة فماتوا تعساء

حسن البصري
من المصادفات الغريبة في حياة البشير لعلج أن يموت والده بجلطة دماغية وهو في حالة سجود بأحد مساجد المدينة القديمة للدار البيضاء، ويموت الابن البشير بجلطة دماغية في سيناريو مشابه، رغم أن وفاته قد لازمتها العديد من المغالطات، إذ ذهبت بعض الروايات إلى الحديث عن سكتة قلبية على خشبة مسرح سينما فيردان وهي رواية فيها كثير من المغالطات.
بالعودة إلى حياة البشير، فقد ولد عام 1921 في المدينة القديمة للدار البيضاء، وتحديدا في زنقة الجديدة بدرب كناوة، من والد قادم من فاس كان يملك محلا لبيع النعال، تعاطى الفتى منذ صغره للمسرح وخاصة كتابة النصوص، وكان له ميل فطري نحو الكوميديا، بل إنه كان يجمع بين التأليف والتشخيص.
ويعد البشير من المسرحيين الرواد في المغرب، على الرغم من الغبن الإعلامي الذي لازمه بعد رحيله، وهو ممن كرسوا في ممارستهم للمسرح رسالة نبيلة متمثلة في الالتصاق بهموم الناس والتعبير عن واقعهم المعيش بطريقة فنية، ظلت تناوله للواقع المرير للمواطن بسخرية، «وكان التناول الهادف للشخوص المستوحاة من التربة المغربية ببساطتها وعقلياتها ولباسها وسحناتها وتقاليدها وعاداتها، هو استحضار لهوية الإنسان المغربي التي كان الاستعمار يجتهد في طمسها، وتطلبت عملية الاستحضار تلك تضحيات جسام»، كما قال الكاتب أحمد زياد.

أسد الإبداع والنضال
تعرض البشير لعلج والكثير من رفاق دربه في المقاومة والنضال، لمضايقات عديدة إلى درجة منعه من تأسيس الفرق المسرحية، بل إن عروضه غير المرخصة ظلت تحت عيون أعوان الحماية الفرنسية، سيما وأن رسالته تختزل الرغبة في تحرير الانسان والدفاع عن حقه في العيش الكريم، ولم تكن تلك النشأة كما أراد لها المستعمر.
كان البشير ينتمي لأسرة ميسورة الحال، حيث اعتمد عليها في تسديد نفقات مسرحياته، لكنه ظل يجمع بين الفن والمقاومة، إذ انطلقت مسيرته النضالية وهو لم يبلغ الخامسة عشر من عمره وشارك في مظاهرة 1937 التي سميت بانتفاضة «جامع السوق» وأفضى به الأمر إلى السجن. هناك رفقة الحاج محمد بنجلون التويمي، مؤسس الوداد البيضاوي، ذاق الشابان كل أشكال التعذيب.
جمع البشير بين العمل الإبداعي والنضالي، من خلال اتخاذه خطوة جريئة رفقة العديد من المناضلين بتأسيس أول فرقة «قومية»، وكانت تضم بين أعضائها رموز النضال والوطنية. وقيل عنه إنه مسرحي يقاوم بفنه، رفع سقف التحدي بانخراطه في حزب الاستقلال عام 1948، والانتماء للخلية السرية «الهلال الأسود» التي جمعت في عضويتها كلا من محمد الزرقطوني والإخوان الحداوي ومحمد صدقي والمعروفي وغيرهم من المقاومين.
أطلق الملك الراحل محمد الخامس على البشير لعلج لقب «الأسد الصامت» تعبيرا عن شجاعته واشتغاله في الخفاء من خلال تمويله العمليات الفدائية وتبعاتها من أمواله الخاصة بدءا باقتناء الأسلحة ووصولا إلى توفير كل أشكال الإسعاف. ويذكر ابن الراحل محمد نبيل لعلج في حوار صحفي، أن الملك الراحل كان قد شاهد مسرحية «الصب العليل» فوقف طويلا وهو يصفق بحرارة. أما الممثل المسرحي المصري الكبير يوسف وهبي، فقد أصر في عام 1947 على مقابلته اعترافا بقيمة البشير الإبداعية وبقيمة ما يقدمه من إنتاجات مسرحية. ليطلق عليه لقب «أمير المسرح العربي».

دعم مولاي الحسن
بعد حصول المغرب على استقلاله عام 1956، تمكن البشير من تأسيس فرقة مسرحية جديدة تحت اسم «الكواكب» وتكفل بكل مصاريفها بدعم من الأمير مولاي الحسن الذي تابع بدايات التأسيس حيث خرجت إلى الوجود مجموعة من الفنانين أمثال الحبيب القدميري ومحمد مارتيس وعمر عزيز وبوشعيب البيضاوي وبوجمعة والصويري والمفضل الحريزي، ومن فرط تعلق ولي العهد بهذه الفرقة وارتباطه بروادها فقد أطلق على الابن الوحيد للبشير اسم «نبيل».
أضحك البشير المغاربة في عز الأزمات التي ضربت البلاد، وكان فنانا متكاملا جمع بين التأليف والإخراج والإنتاج والتشخيص، كما كان من خيرة زجالي تلك الفترة، كما كتب كلمات أكثر من خمسين أغنية، بالإضافة إلى العديد من الإنتاجات الإذاعية والتلفزيونية كان أبرزها البرنامج الشهير آنذاك «رفه عن نفسك».
في الثالث والعشرين من شهر يونيو عام 1962، شعر البشير بعياء وهو واقف على خشبة مسرح فيردان بالدار البيضاء، وتقول بعض الروايات المتداولة في الوسط الفني، إن رائد المسرح المغربي الأول البشير العلج، كان يشعر بدنو أجله، حيث قال لأحد الممثلين أثناء التمرين على آخر مسرحياته، «هذي آخر مرة نعلمك»، كما كشف قبل وفاته عن رغبة كبيرة في الاعتزال.
لكن الرواية الحقيقية لوفاته هي التي يتقاسمها ما تبقى من أفراد فرقته، إذ يروي عمر عزيز تفاصيل اللحظات الأخيرة من حياة البشير، مفندا طرح الوفاة على خشبة المسرح: «في يوم السبت 22 يونيو، انتهينا من تسجيل إحدى الأعمال الساخرة التي كان مقررا عرضها في اليوم الموالي على أمواج إذاعة الدار البيضاء، ركبت سيارته وطلب من سائقه أن يوصلني أولا إلى بيتي بالمدينة القديمة على أن يواصل السير نحو بيته في بوركون، ودعته ودخلت منزل أسرتي في منتصف الليل. في اليوم الموالي كنت أنتظر بث العمل الفكاهي على أثير الإذاعة وإذا بمذيع يقدم خبر وفاة البشير ويعتذر لعدم تقديم العرض الساخر، وحين توجهت إلى بيت لعلج وجدت أحمد القدميري وهو يبكي. وعلمت أنه توفي بسكتة قلبية، وفي اليوم نفسه دفن بمقبرة أهل فاس في مشهد جنائزي حاشد حضره العديد من رجال الفن وسجل حضور عبد الله شقرون وأحمد الرياني وعمر الحارسي ووجوه فنية وإعلامية وسياسية».
بعد وفاة البشير انمحى من المشهد الفني والإعلامي وكأنه لم يكن، وتبين أن المسكن الذي كان يقطنه مكترى، وأن ماله رصده لاستمرار فرقته، وهاجر ابنه إلى فرنسا بعدما ظل اسم والده على زنقتين في جماعتي المعاريف وأنفا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى