البرنامج الاستضباعي(2/2)
ما يمكن أن ندلي به من معطيات سيجعل كل ذي حس سليم يقتنع بأن الجزء الأكبر من أزمة التعليم هو غياب ضابط يضبط حركة المتدخلين، المحليين والدوليين في هذا القطاع، فعدد المشاريع التي تشرف عليها فرنسا وحدها والأموال الطائلة التي تصرفها عبر سفارتها تحديدا في مجال تعلم اللغة الفرنسية لا يمكن تصوره، ومع ذلك بدون نتيجة، ولكن إذا عرفنا السبب بطل العجب، فأغلب الذين يشرفون على هذه المشاريع هم مغاربة يحصلون على تعويضات بالأورو، وأغلبهم يتنقل بسيارة مرقمة «هيئة دبلوماسية» تابعة للسفارة الفرنسية، وتم انتدابهم لكونهم «خبراء فينا»، لكن الواقع هو أنهم يشتغلون فقط مع أصدقائهم في بعض المديريات وبعض الأكاديميات، حيث نجد أن مشروعا يكلف مئات الملايين من السنتيمات على الورق، وإذا دققنا في المشروع جيدا سنجد أن المشرفين عليه يحصلون على ثلثي الميزانية العامة للمشروع فقط كتعويضات، حتى أن هناك منهم من يحصل على تعويض يتجاوز مليوني سنتيم عن اليوم الواحد، وهذه حقيقة لا مبالغة فيها، أي أن هؤلاء يأتون بالمشروع باسم العلاقات المغربية الفرنسية، وبشعارات رنانة، وعندما تتم المصادقة عليه يصرفون الجزء الأكبر من ميزانية المشروع في التعويضات فيما يخصص الجزء اليسير لبعض الأنشطة الشكلية والتي يتم وضعها في التقارير على أساس أنها معجزات.
وفي هذا الإطار يدخل العمل الذي يقوم به نور الدين عيوش ومؤسسته زاكورة، فهذا التاجر فهم جيدا أن الفوضى التي يعرفها التعليم المغربي توفر مناخا مناسبا للاستثمار، ومنها مسألة اللغات، لذلك فإن كانت جهة ما تسعدها كثيرا النتائج التي وردت في الدراسة سابقة الذكر عن اللغات فهو عيوش تحديدا، إذ بدل أن يفكر في الطريقة التي ستمكن التلاميذ المغاربة من تعلم اللغات الحية التي ستمكنهم من دخول عالم المعرفة، فإنه وضع وسيضع مشاريع تمولها منظمات دولية، على رأسها اليونسكو والاتحاد الأوروبي، ظاهرها هو تدريس التلاميذ الفقراء بـ«اللغة الأم» وعمقها هو استثمار اقتصادي واضح ذو خلفيات ربحية واضحة في مآسي التعليم المغربي.
وإلا هل يمكن لعيوش أن يفتح المدارس التابعة لمؤسسة زاكورة لتقويم محايد يقيس مدى تحكم التلاميذ الذين يستجدي المساعدات الدولية بمآسيهم في اللغات الحية ؟ هل يمكنه أن يعطينا بالأرقام الموضوعية نتائج تدريس التلاميذ بالدارجة ؟
فهذا التاجر، الذي فهم جيدا الفوضى التي يعيشها القطاع، جمع بعض الذين يسميهم «خبراء في اللغات»، وبعضهم أساتذة جامعيون من جامعة أبي شعيب الدكالي بالجديدة، وهؤلاء استغلوا طلبتهم في وضع «شي حاجة» سماها عيوش «معجم الدارجة»، وفيه تم وضع تعريفات لكلمات سوقية متداولة في محور الرباط الدار البيضاء، على أنها تعريفات معيارية تهم اللغة الأم للمغاربة، لينتقل بعد ذلك إلى تسويق هذا المعجم بـ300 درهم موهما الرأي العام بأنه ثمن رمزي فقط، لكون تكلفة نشر الكتاب مضاعفة لهذا الرقم، لكنه لم يقل لنا حجم الأموال التي ستتلقاها مؤسسته من مانحين دوليين يوهمهم بأن معجمه يهم اللغة الأم لـ32 مليون مغربي، مع أن الأمر يتعلق بـ«تخربيقة» تهم اللهجة السوقية المستعملة في منطقة معينة وليس في كل المغرب، ولا علاقة له بما هو معروف علميا عن اللغة الأم.
هكذا تصبح مصيبة التعليم المغربي مركبة، فالتلاميذ المغاربة في وضع كارثي، وجهات كثيرة تستغل هذا الوضع للمتاجرة بهم في مشاريع يبدو ظاهرها تربويا وإنسانيا و«تنمويا» في حين أن عمقها تجاري محض.
وإلى جانب هذا نجد أن «مسامر الميدة» في وزارة التعليم، والذين كانوا كلهم مسؤولين عن تنفيذ مشاريع البرنامج الاستعجالي الفاشل، هم أنفسهم المسؤولون الآن عن تنفيذ الرؤية الاستراتيجية الخاصة بالمجلس الأعلى، كل هذا ولا أحد يمكنه أن يوقف هذا العبث، لا أحد يمكن أن يوقف عيوش وأمثاله عند حدهم، ويمنعهم من الاسترزاق باسم مآسي التعليم المغربي، ولا أحد يمكنه أن يوقف استباحة المنظمات الدولية للقطاع، وفي نفس الوقت لا أحد يمكنه أن يغير واقع البنية المركزية لوزارة التربية الوطنية والتي تعتبر السبب الأول لفشل البرنامج الاستعجالي.
فإذا ألقينا نظرة على الهندسة التدبيرية التي تبنتها الوزارة لتنفيذ ما جاءت به الرؤية الاستراتيجية سنجد أن كل المديرين المركزيين الذين دبروا البرنامج الاستعجالي، بدون استثناء، هم أنفسهم الذين استولوا على مشاريع هذه الرؤية.
إن التعليم في الدول التي تخطط لمستقبلها يعتبر قطاعا استراتيجيا ذا أولوية حيوية، وهو في بريطانيا مثلا تابع مباشرة للملكة، فهو قطاع لا يختلف كثيرا من حيث الأهمية عن قطاع الدفاع الوطني، لأن الأمر يتعلق بمستقبل الأجيال التي ستتحمل مسؤولية تسيير البلد عندما تكبر.
ولذلك فالحل الوحيد لإصلاح التعليم العمومي في المغرب هو أن تبقى وزارة التعليم خارج التجاذبات الحزبية، وأن تصبح وزارة سيادية كالدفاع والخارجية والأوقاف، مع تخصيصها بأكبر نصيب من الميزانية السنوية.
عدا هذا سيبقى أبناء الشعب عرضة لأهواء السياسيين المتقلبة وأطماع التجار الجشعين، مرة «عرب ليهم» مرة «فرنس ليهم» مرة «درج ليهم» إلى أن «ضربو تلفة» للتعليم بصفة نهائية.