شوف تشوف

الرأيالرئيسية

البرازيل والآخرون

ليست كأس العالم في كرة القدم حدثا عاديا، وليست ملاعبها مجرد ساحات يتصارع فيها الأولاد على الكرة، ولا مسرحا تدريبيا للممثلين الناشئين. كل شيء فيها هو قمة، وقمة القمم هم أبطال العرض اللاعبون. هم نخبة النخبة من الممثلين المتفوقين، الذين لا نسخة ثانية عن كل واحد منهم. ليست سيركا، ولا مدرج ألعاب رومانية، ولا ميدان سباق سريع، ولا قفزا عاليا ولا طويلا… هي عالم على حدة له آلهته وطقوسه وسحرته وتمائمه وأسراره، وله كل هذه القدرة المغناطيسية على الشد وحفز الحواس.

المونديال ذروة التنافس الرياضي في العالم، لا تدانيه أي تظاهرة رياضية أخرى، لا الألعاب الأولمبية، الصيفية منها والشتوية، ولا البطولات القارية، الجماعية أو الفردية. هو هوس الجماهير الجامح من القطب إلى القطب، وكرة القدم هذه الساحرة تخفي سرها بين أقدام لاعبين مبهرين وقوى كبرى تديرهم وتدبر لعبتهم التي تستقطب كل ما في هذا العالم من متعة وحماسة ومشاعر متناقضة.

على المسرح الكبير الأخضر تتنافس منتخبات الدول المتأهلة إلى النهائيات، وتتفاعل معها جماهيرها وجماهير بلدان أخرى بعيدة منها، ولكل منتخب تاريخ ونكهة. كرة القدم مدارس ومنهجيات وأساليب وخطط وجهد وعطاء، وتوفيق وحظ.. ومؤامرات. وفي هذا العالم المتداخل هناك معلمون كبارا وهناك «كافيار» كرة القدم، كما هناك التلاميذ والعابرون بالصدفة.

البرازيل والمونديال اسمان لمسمى واحد، لوجهي قطعة العملة. لا يُذكر المونديال من دون أن يقترن باسم البرازيل. ليس انتقاصا من قيمة الأرجنتين أو ألمانيا أو إيطاليا أو إسبانيا أو فرنسا أبدا، لكن البرازيل هي نكهة المونديال منذ دورته الأولى عام 1930، بخساراتها وفوزها وكؤوسها الخمس التي فازت بها. هي المقياس، معذور من يخسر أمامها وبطل من يتعادل معها، وخارق من يفوز عليها. الفوز على البرازيل حلم جميع الفرق، قويها ووضيعها، إذا حضرت توجهت كل الأنظار نحوها، وإن خرجت تحسر الجميع على غيابها. لا متعة تشبه متعة مشاهدة مباريات البرازيل، ولا حرارة توازي حرارة جمهورها ومحبيها في أنحاء الكرة الأرضية.

كرة القدم البرازيلية عالم خاص داخل العالم الأكبر لكرة القدم، هي إيقاع الروح وموسيقى دقات القلب، المزيج اللاتيني- الإفريقي المشبع بالطبيعة الفتانة وألوانها الفريدة والمساحات الحرة. هي التزاوج الناجح بين إنسانية الإنسان وفطرته، والسعي إلى الكمال، لا طرف يطغى على الآخر. ولحسن حظ المونديال أنها لم تغب عنه مرة واحدة في تاريخه، وهي الوحيدة المتفردة في ذلك.

البرازيليون هم شوكولاتة المونديال التاريخيون منذ كان «الآيس كريم» هو الطاغي، وقبل أن يأتي الكاكاو الإفريقي للمرة الأولى في مونديال الـ74 مع المنتخب الزائيري الذي لم يجرؤ نصف لاعبيه على العودة إلى بلادهم، التي أصبحت في ما بعد جمهورية الكونغو، خوفا من بطش الديكتاتور موبوتو. البرازيليون المولودون على إيقاع الحياة وموسيقى الطبيعة لم يعلموا العالم رقص السامبا واللامبادا فحسب، بل صنعوا كرة قدم خاصة بهم ألهمت الهواة والمحترفين في كل أنحاء العالم، فتكنوا بأسماء لاعبيها وحلموا بامتلاك مهاراتهم الفريدة.

يلعب البرازيليون كرة القدم لمتعتين، متعتهم الشخصية ومتعة الجمهور الحاضر أو المتسمر أمام الشاشات، كرة القدم التي أغنت عددا كبيرا منهم لم تأخذ منهم شغفهم الشخصي بالإبهار والإمتاع، ما زالوا يلعبون على سجيتهم، الفن والمهارات الفردية والاستعراض الممتع عناوين ثلاثة تبرر وجودهم على المسرح، إذا توافرت هذه العناصر على الأرجح ستكون النتيجة الفوز، فإذا جاء توج كل ذلك بالفرحة التامة، وإذا لم يأت يكون حسبهم أنهم أمتعوا. لم يفز منتخب الـ1982 بكأس العالم، رغم أنه كان يضم أحد عشر ساحرا، يكفي ذكر سقراطس وزيكو وفالكاو منهم. لكن متابعي ذلك الزمن ما زالوا يعتبرون أن ذلك المنتخب هو البطل الفعلي لذلك المونديال ولكل المونديالات.

لو غير البرازيليون طريقة لعبهم لفازوا بمونديال 82 بسهولة، لكنهم لم يفعلوا، لأنهم لو فعلوا لتغيرت كرة القدم عن بكرة أبيها، قال زيكو. كرة القدم التي ما زالت تعيش صراعا بين مفهومين، أحدهما يركز على القوة البدنية والإدارة الصارمة، والثاني على الفن والمهارة والحس الداخلي.

ليس اللاعبون البرازيليون ماكينات ولا كمبيوترات ولا روبوتات ولا صواريخ ولا طائرات، لا أحد يستطيع أن ينعتهم بنعوت مثل هذه، ويوم يتحولون إلى آلات تموت روح كرة القدم. طبعا ليسوا وحدهم كذلك، منتخبات أمريكا اللاتينية تشبههم إلى حد ما وبعض كرة إفريقيا، لكنهم معلمون كبارا. كرة القدم في البرازيل هي كرنفال الريو ومزاج القهوة عند شعب كامل، هو أجمل جمهور في العالم.
الأسماء معروفة للجميع، وللإنصاف ليسوا وحدهم من صنعوا التاريخ العظيم لكرة القدم، لكنهم ليسوا كالآخرين.

راغب جابر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى