البحث: ضرورات وفرائض
عبد الإله بلقزيز
الحياةُ بحثٌ دائب عن شيء مفقود… ومرغوب. ما من شيءٍ يأتي الإنسان بالتلقاء؛ وهو قابع حيث هو. وإن حصل وأتاهُ على هذا النحو بالصدفة يكون مجردًا من المعنى: المعنى الذي يخلعه، بالذات، ذلك البحثُ الدؤوب عن الشيء المرغوب.
قد يرث المرء مالاً أو عقارا فيكفيه ذلك مشقةَ البحث، لكنه لا يُشعِرهُ، البتة، بقيمة ما يملك؛ لأنه لم يبذل في سبيله كبيرَ جَهْدٍ أو صغيرَهُ. وقد يبددُهُ لأنه أتاه سهلاً من غير شقاءٍ أو مكابَدة، ولم يدفع ثمنَه عناءً ومعاناة.
حياة المرء بحث مستمر. يبحث المرء عن لقمة العيش التي يسد بها أوده والأهلَ معه. يبحث الطالب عن أسلك سبيل إلى الإحاطة بالمقرر من الدروس والفوز في الامتحان. يبحث المزارع عن طرق للري تشبع الأرض إن كف المطر. يبحث المتخرج – كما العاطل- عن فرصة عمل. يبحث المٌعَزل عن بيت والديه عن مسكنٍ يَتَأواه. يبحث الشاب عن زوجة صالحة والشابة عن زوج صالح. يبحث الدارس والعالم عن الحقيقة. يبحث الطبيب الحاذق عن علة الداء لمداواة المريض. يبحث المجتمع الحي عن النظام السياسي الصالح. تبحث الدولة عن موارد القوة التي تصنع مِنْعَتها وتحفظ سيادتها… إلخ. الجميع يبحث لأن ذلك من طقوس الحياة وشروطها اللازبة.
والبحثُ التعب؛ فعلٌ شاق يستنفد الطاقة والطوْقَ في البدن والنفس. بعضُنا يتجلد في حمْله، وبعضٌ ثانٍ تُعييه الحيلة ويَنْكَف عنه آيِبًا من شدة الوطأة. لا يتجلد فيه إلا من يعرف، على التحقيق، معنى الحياة بل، قُل، من تَنْزِل قيمة العمل من نفسه منزلةَ المُحة من البَيْضة، فَيَكُد ويَشقى ويحصُل له بذلك لَذَاذَةُ متى ما أصاب نُجْحًا في ما هو سعى فيه وأنْفق العزيز من الجهْد. وكما لا تُستطابُ راحةٌ إلا بعد نَهاكَةٍ تأخذ من البَدن كُلهُ وكثيرَهُ، كذلك ما من سعادةٍ تُنْكَه نَكهتُها من غير شقاءٍ يسبقها. الحياةُ العَمَلُ، ومَن كَسِل إنما عن الحياة يَكْسَل، وعن غُنْمِ نفيسِها يَذهل.
وأشَق ضروبُ البحثِ وأَعْسَرُ دروبِها البحثُ العلمي، والفلاحُ فيه غيرُ ميسور للناس جميعًا، ولا حتى لأهلِه أنفُسِهم إن لم يأخذوا أنفسَهم بالمزيد من رياضة النفسِ عليه. ما من باحث، على التحقيق، يَلِجُ باب البحث العلمي ليخرُج من رحابه بما احْتَطَبَتْ يداهُ من يَسيرِ الحصائل؛ عليه أن يُمْعن فيه ويسيرَ في شعابه إلى الأبْعَد، ويستوْطنُه ويسْكُن إليه مُعْتَصَمًا وملاذا، وأن يستأنِفَ فيه البدء فيدور مع دوائره وتعرجاتها، وأن يوطِّن النفس – دائما- على أن يُعطي الأكثر ليتحصل من ثمراته الأقل، وأن يحصن ذهنه من الاعتقاد الباطل بأنه أصاب منه ما يُشبع ويكفي. عليه أن يأتيَ ذلك، بهمة المثابر التي لا تَفْتُر، حتى يكون لأمرِه أهلا ويستأهل الدخول في زمرة الباحثين. وما أغناني، هنا، عن التنفيل للقول إن ذاك لا يكون من غير الإخلاص لرسالة البحث العلمي، وحمْل النفس – بالشدة والعناد- على تأمين موارده وأزواده – وآكدُها- القراءة.
ولقد كان البحثُ العلمي وما بَرِح – من أسفٍ شديد – أقل المشمولات بالحَدْب والرعاية في بلادنا، حتى لكأنه تَرَفٌ من الكماليات، وليس فريضةً ولا هو حتى من الضروريات. ويستوي، في هذا، البحثُ الذي مدارُهُ على الطبيعيات والتقنيات والبحث الذي مدارُهُ على الإنسانيات والاجتماعيات. كلاهما أهْمِلا ووقع الازورار عنهما، فاكتُفِيَ من المعرفة بما تقدمه المدارس والجامعات من يَسيرِ التعليم، وحُجِب الإنفاقُ المادي على ما يفيض عن حد الشهادات التعليمية العليا، أو قُل إن ما كان من بعضه القليل هزيلٌ لا يفي بالغرض، ولا يُقيم مداميكَ مؤسسات العِلْم ويغطّي نفقات البحث. وإذا كان علماءٌ بَرُزُوا في بلادنا بَرَازةً، وكان لهم في البحث صيتٌ ومنزلة، فأكثرُهم قَامَ أَوَدُهُ بعصاميته ودأبه على العلم بالتلقاء، وبأثرٍ من دافع داخلي (= الفضول العلمي).
وها إننا اليوم، ونحن نسلم رِقابَنَا ومصائرَنَا واقتصادَنا لكورونا تحصُدها، نقِف على هوْل ما فعلناهُ بأنفسنا ومجتمعاتنا حين احتقرنا العلم وأَزْرَيْنا به، وخِلنا أن الجاه والمال أعلى شأنا وشأوا منه، فاطرحناهُ من برامج أولوياتنا، وأهملناه في سياساتنا. ها هي مجتمعات العلم والبحث العلمي تتسابق- في المنافسة الساخنةـ كي يتفتق علمُها عن حلولٍ لهذه «النازلة» الوبائية. وحين ستهتدي إلى ذلك قريبا، ستتحول نتائج بحثها العلمي إلى دواء؛ إلى عقارٍ أو لَقاح تٌنْتِجه مختبراتُها وتبيعُنا إياه كما تبيعُنا سائر منتوجاتها، فتكون حيواتُنا وقفًا عليها وعلى علومها! مع ذلك، تكتشف مجتمعاتنا أنه ما من كلمةٍ مسموعة، اليوم، إلا ما يفُوه به الأطباء. هؤلاء، وحدهم -وهم علماء- نضع مصائرنا بين أيديهم ونعول على معارفهم كل التعويل. ليت هذا الشعور بقيمة العلم يستمر دائما فلا يأتي الناس مأتى السوانح.