الباك في الصاك
في غمرة السجال القائم حول امتحانات الباكلوريا، ظهرت مهن جديدة لها ارتباط بالاختبارات، حيث ساهمت التكنولوجيا الحديثة في ظهور فئة تسمي نفسها «لي سفولور» أي «الهامسون»، حيث يظلون على ارتباط بالتلميذ يزودونه بما تيسر من بينات تفك عسره يوم لا ينفع الغش التقليدي.
في امتحانات الباكلوريا يمكن للمرشح أن يستعين بفيلق من المساعدين المرابطين بالقرب من المؤسسات التعليمية، أو أن يتزود بما يشبه الحزام الناسف الذي يعينه على فك المعادلات المستعصية.
حين كان للباكلوريا شأن، كان الحاصل عليها عريس الأسرة والحي والمدرسة، وفي اليوم الموالي يظهر اسمه في الصحف ضمن لوائح الناجحين، ويتلقى الوالدان التهاني من كل حدب وصوب، وينال منحة تمكنه من التمتع بالصيف وهو في أزهى حالاته.
انفتحت النخبة العصرية على المنظومة التعليمية الفرنسية، وشرعت في إرسال أبنائها إلى مدارس البعثات الأجنبية، بل إن كثيرا من المنددين بالاستيلاب الفرنسي كانوا سباقين لتسجيل أبنائهم في المدارس الأوربية. في زمن بالأبيض والأسود كان الغش رجسا من عمل الشيطان، وكان التلميذ يؤدي القسم قبل دخول فصل الاختبار.
ومع مرور الأيام خفت بريق شهادة الباكلوريا وأصبح الحصول عليها لا يختلف كثيرا عن الحصول على شهادة حسن السيرة والسلوك، لاسيما أنها لا تسمن ولا تغني من جوع إلا إذا تعززت بميزة عالية.
الآن هناك مخترعون موسميون، يتحركون في هدوء، يفتحون دكاكينهم وهم يرددون: «يا فتاح يا رزاق»، ويضعون يافطة عليها «ممنوع الطلق والرزق على الله» انسجاما مع ظرفية الأزمة التي تضرب البلاد والعباد، فالامتحانات انطلقت والطلاب يبحثون عن وسيلة للنجاح بأقل جهد فكري.
ولأن مراقبي الامتحانات يمنعون الهواتف الذكية والكسولة من ولوج قاعات الامتحانات، فإن المخترعين طوروا وسائل الغش، وعرضوا نظارات طبية تحتوي على سماعة لا سلكية صغيرة بلون الجلد، وبمجرد قراءة ورقة الامتحان تنقل كاميرا الأسئلة فتأتي الأجوبة بعد حين عبر السماعة الصغيرة. انتهى زمن الغش بـ«الحجابات» تلك القصاصات الورقية الصغيرة التي تختزل في مساحة صغيرة محتوى موسم دراسي. وظهرت في الأسواق أقلام سحرية وساعات مزودة بذاكرة تختزن الكثير من المعلومات. وهناك من يرابط في مراحيض الثانويات والجامعات لتقديم خدماته وسط الروائح النتنة.
ولأن مبدأ جهاز المراقبة «اللي فراس الجمل فراس الجمال»، فإن المراقبين خضعوا لدورة تكوينية أحيطوا فيها بآخر المبتكرات، وفي أول عملية مداهمة بكلية الشريعة بفاس سقطت ابنة برلمانية وقيادية حزبية تتابع دراستها بالكلية، في الكمين، بعد أن تمت إدانتها بالغش العلني، وهي تستعمل هاتف والدتها الذكي. فأحيلت الطالبة على المجلس التأديبي، على غرار برلماني «البيجيدي» الذي يضع في مكتبه سبحة ويافطة تدين الغش والغشاشين.
هذا الحادث اعتبره مهنيو «النقل» السري حدثا عابرا، وواصلوا البحث عن اختراعات جديدة تستقطب مئات الكسالى، رغم أنهم يعرفون أن من يتطلع إلى منصب مهم فى هذا البلد، كمن يطارد خيط دخان، مادامت المناصب الكبرى كمقاعد «الأوتوبيس» مخصصة لكبار السن فقط. هذا لا يبعث على الإحباط فالانضمام إلى صفوف المعطلين أصبح وظيفة تغني عن الجلوس في المقاهي أو الاتكاء على الحيطان، لذا يستمر المخترعون في إبداعاتهم الجهنمية والتي تلاقي إقبالا كبيرا، دون أن تحاول السلطات احتضان المواهب المخترعة وتغيير مجرى عملها، حتى لا تقتات من عرق الغش والغشاشين..، خاصة أن أغلب الزبائن ينحدرون من الأحياء الشعبية ومن المدارس العمومية التي لازالت تجارة الغش مزدهرة فيها، خلافا للمدارس الخصوصية، فقبل ثلاثين عاما كان الفاشلون يلتحقون بالمدارس الخاصة، والآن يلتحق بها الناجحون وأصحاب الجاه، يا لسخرية القدر..
وتبقى الحاجة أم الاختراع وأباه.