الباقي استخلاصه
كانت العادة تقتضي أنه في كل سنة عندما تقدم المجالس المنتخبة في البلديات والجماعات الحساب السنوي المالي تشير إلى وجود فائض بالملايين، وأحيانًا في المدن الكبرى بالملايير. هذا الفائض طبعًا لا وجود له في صناديق الجماعات أو البلديات أو في حساباتها البنكية، بل يوجد على شكل رسوم وضرائب غير مستخلصة، ولذلك تضع هذه المبالغ الفائضة تحت مسمى “الباقي استخلاصه”، وهو الباقي الذي تتوارثه المجالس المنتخبة مجلسا عن مجلس، لفترات تمتد لعشرات السنين.
استخلاص الرسوم والضرائب هو من صميم عمل المجالس المنتخبة، لكنه عمل لا يجلب الشعبية للمنتخبين بل يتسبب لهم في “صداع الراس” مع منتخبيهم المفترضين، لذلك يتغاضون عن القيام بهذه المهمة ويتركون ميزانيات مجالسهم تغرق في الديون فيما لديها فائض لا تريد استخلاصه من أصحاب المقاهي والمطاعم والمحلات التجارية وغيرها.
وعلى سبيل المثال فالباقي استخلاصه في مجلس مدينة الدار البيضاء وصل برسم 2019 إلى 640 مليارا، أي بزيادة 200 مليار عن سنة 2018، وعوض العمل على استخلاص هذه المبالغ فضل المجلس التوجه نحو البنك الدولي لأخذ قرض قيمته 1،9 ملايير درهم تمتد فترة دفع أقساطه على 23 سنةً، أي أن أعضاء المجلس ورئيسه سيذهبون لحال سبيلهم وسيتركون لمن سيخلفهم أقساط وفوائد هذا القرض لكي يدفعوها من ضرائب السكان.
اليوم ومباشرة بعد عودة المقاهي والمطاعم لاستئناف العمل بعد ثلاثة أشهر من التوقف بسبب إجراءات الحجر الصحي، فوجئ أصحابها بالتوصل بإشعارات تطالبهم بأداء ما بذمتهم من رسوم جبائية وضرائب لفائدة الجماعات الترابية، خاصة بالمدن الكبرى التي يترأس مجالسها منتخبون من حزب العدالة والتنمية .
وهنا نتساءل عن خلفيات مثل هذه القرارات، علما أن منتخبي العدالة والتنمية ظلوا يتغاضون عن مطالبة أرباب المقاهي والمطاعم بأداء هذه الرسوم والضرائب طيلة السنوات الماضية، طمعا في أصوات بعضهم الانتخابية، واليوم بسبب الجائحة التي خلفت تداعيات وخيمة على هذا القطاع الذي توقف عن العمل، نجد هؤلاء المنتخبين يكشرون عن أنيابهم لمطالبتهم بأداء المستحقات الضريبية للأشهر الثلاثة الماضية، في الوقت الذي منحت الدولة والمديرية العامة للضرائب تسهيلات لجميع القطاعات بخصوص أداء الضرائب، للتخفيف من آثار وتداعيات هذه الجائحة، لكن “إخوان” الحزب الحاكم يشتغلون بمنطق “إنا عكسنا”، في محاولة منهم لتأجيج احتجاجات أرباب المطاعم والمقاهي، وخلق نوع من الاحتقان الاجتماعي داخل المجتمع، بعدما ضربتهم “الجايحة” ووجدوا أنفسهم على الهامش طيلة فترة حالة الطوارئ الصحية، لأنهم أصبحوا يتقنون الركوب على الأمواج واستغلالها سياسيا وانتخابيا، ولا يمكنهم الاستمرار بدون وجود أزمات لينتعشوا من جديد.
وطيلة فترة الجائحة لم يجد المواطنون إلى جانبهم سوى الأطقم الطبية والتمريضية ورجال ونساء السلطة الذين سطع نجمهم، ورجال الأمن والدرك والجيش والقوات المساعدة والوقاية المدنية، فيما لم يظهر أي أثر للمنتخبين الذين صوتوا عليهم، رغم أن حزب العدالة والتنمية يتوفر على 5025 مستشارا جماعيا بمجالس الجماعات الترابية، ويشرف على تسيير 177 مجلسا جماعيا من أصل 1503 جماعة حضرية وقروية، ويترأس 34 مقاطعة حضرية من أصل 41 مقاطعة، بنسبة تقارب 84 في المائة، ويتوفر الحزب على 219 مستشارا بمجالس العمالات والأقاليم، ويتحمل مسؤولية تسيير خمسة مجالس منها، ويتوفر على 173 مستشارا بمجالس الجهات، ويشرف على تسيير جهتين، وهما جهة الرباط سلا القنيطرة، وجهة درعة تافيلالت، كما يشارك الحزب في تسيير العديد من المجالس الجماعية ومجالس العمالات والأقاليم ومجالس الجهات في إطار التحالف مع أحزاب أخرى، وفي المجموع يتحمل الحزب مسؤولية تسيير أزيد من 500 مجلس، تخص الجماعات ورؤساء مجالس العمالات والأقاليم ورؤساء الجهات ورؤساء الغرف المهنية ورؤساء المقاطعات ورؤساء المجالس القروية ويسيطر على عمودية جل مجالس المدن الكبرى ذات نظام وحدة المدينة وكذلك المقاطعات المشكلة لها، وهي فاس، وطنجة، والرباط، وسلا، والدار البيضاء، ومراكش.
ولذلك يدفع مستشارو العدالة والتنمية المدن والجماعات التي يتحملون مسؤولية تسيير مجالسها إلى وضعية الاحتقان الاجتماعي، للهروب من المحاسبة الشعبية مع اقتراب موعد الانتخابات، وبدأت احتجاجات الباعة المتجولين على قرارات السلطة المحلية لإخلاء الشوارع التي تحولت إلى ما يشبه “مخيمات” دائمة، بعد لجوء هؤلاء إلى نصب خيامهم وسط الشوارع والأزقة، ومنع حركة مرور السيارات عبرها، وقامت السلطة بهدمها خلال فترة الحجر الصحي وتخليص المواطنين من فوضاها، والآن هناك من يشجع هذه الفئة ويدفعها إلى الاصطدام مع السلطة والأمن، علما أن الحكومة لم تقدم أي حل لهذا النوع من الأنشطة الاقتصادية العشوائية التي ستعود شيئًا فشيئًا لاحتلال الفضاء العام لتشوهه وتسد مداخل العمارات والأزقة بعدما اعتقد الناس أن المجالس والسلطة المحلية قررت وضع حد لها.