البؤساء
شامة درشول
احتفل العالم الأسبوع الماضي بما يسمى «اليوم العالمي للبؤس». لأول مرة أسمع بوجود هكذا يوم، فبحثت عن المقصود منه ووجدت أنهم يقصدون به اليوم العالمي لمحاربة الفقر المدقع.
بعيدا عن أرقام الفئات التي تعيش الفقر المدقع في المغرب، وبعيدا عن المقاييس التي تعتمدها هيئات المجتمع المدني في العالم، وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة، سنجد أن البؤس ليس هو الفقر المدقع، وأن الفقر المدقع هو الصفة الأكثر صحة في وصف ظروف معيشة المعدمين، لكن البؤس هو صفة يمكن أن تنطبق حتى على الأثرياء، لكنهم بؤساء.
الفقر المدقع، هو وضع اقتصادي وجد المعدمون أنفسهم فيه مجبرين، دون أن يكون هذا من اختيارهم، وستجد بينهم من يقاتل هذا الوضع ليخرج منه وأهله إلى وضع أكثر آدمية، سواء من خلال طلب العلم، طلب وظيفة، أو طلب الهجرة إلى وطن بديل، لكن البؤس هو حالة اختيارية، قد يختار المعدم، أو الفقير، أو الميسور أو حتى الثري، أن يعيش حالة البؤس.
سألت يوما عن أبناء أحد أثرياء المغرب، فأخبروني أن الابن ترك الوطن، وثروة والده، ليلف بلاد العالم، ويعيش في البراري، وبين أحضان الطبيعة، في الوقت الذي اختارت الابنة بدورها أن تستقل عن الوالد وامبراطوريته، وتستقر بعيدا عن الوطن. هذا اختيار عظيم لا يقدر عليه إلا من فهم أن الدنيا لا يمكن أن نحصرها في المال الكثير، لأن المال هو وسيلة لـ»فتح الطريق في البحر»، حتى تغير وضعك إلى وضع آخر، أو تصل إلى وجهتك، لكن الأمر لا يعني أنه لا يمكنك أن تستمتع بالبحر وأنت معدم.
بمعنى آخر، نحن نتسابق على الاطلاع على تصنيف أثرياء المغرب، ومعرفة حجم ثرواتهم، لكننا لا نتساءل كيف يعيشون يومهم. لا أقصد هنا الترهات التي نرددها، من قبيل أن الأثرياء ليسوا سعداء، وأنهم أصحاب مشاكل كثيرة، فكل من على هذه الأرض لديه مشاكل لأن المشاكل جزء من الحياة، وكلما زاد حجم ما تملكه من مال زادت مشاكلك، لذلك ما أقصده هو التساؤل: «هل الأثرياء في المغرب يعيشون ثراءهم بالطريقة الصحيحة؟».
لدي قدوة في حياتي اسمها «ريتشارد برانسون»، هذا رجل بريطاني، من أثرى أثرياء بريطانيا، وواحد من أثرياء العالم، رجل أعمال بدأ من الصفر، أطلق عدة مشاريع منذ بلغ الـ16، أغلبها أصيب بالفشل، أعلن إفلاسه مرارا، قبل أن يحالفه الحظ، ويحجز لنفسه مكانا بين أثرياء العالم.
ريتشارد هذا، قدوتي، ليس لأنه بدأ من الصفر، رجل عصامي لم يعتمد على الريع ليصبح ثريا، لكنه قدوتي لأنه عرف كيف يستمتع بثرائه، فالرجل له مدونة باسمه يكتب عليها مقالات يحاول من خلالها نشر ثقافة الأخلاق في عالم الأعمال، والتعامل مع الموظفين، كما أنه ينشر العديد من المقالات والصور ليتحدث عن أهمية ودور العائلة في حياته كرجل أعمال، وأن العائلة مكون أساسي من أجل النجاح في هذا العالم. ولا ينسى ريتشارد دوره كمواطن عليه واجبات تجاه فقراء مجتمعه، ومن أجلهم يخصص مبالغ محترمة من ثروته ليتبرع بها لفائدة الطلبة، أو مجالات البحث العلمي، ولا ينسى أيضا أن يكتب مقالات حول «السعادة»، وأن السعادة في نظره، هو الرجل الثري، هي تلك اللحظة التي تسرقها من انشغالاتك، لتستمتع بغروب الشمس، بنسيم الصباح، برائحة البحر، بصوت المطر.. هي اللحظة التي تقدم فيها يد المساعدة لشخص في ضائقة، فتحول بؤسه إلى لحظة أمل، وتمنحه جناحا ليحلق بعيدا.
هذه هي التفصيلة التي تفرق بين معدم وثري، فإذا كنت ثريا أو ميسورا، وتمضي حياتك في اللهث المتواصل وراء جمع أكبر قدر من المال، لأنك ترى أن ما في يد الآخر هو أكثر مما في يدك، بدل أن تمضي وقتك في الاستمتاع بما لديك، فاعلم أنك أنت من يعيش «البؤس»، وأنت من عليه الاحتفال بيومه العالمي.
منذ ثلاث سنوات، حملتني مهمة عمل إلى الجنوب الشرقي للمغرب، كانت أول مرة أطأ فيها هذه المنطقة من البلاد، بدأتها من مراكش. كان الوقت وقت احتفال مراكش بالمهرجان العالمي للسينما، الفنانون والمشاهير كانوا يتهافتون على السجاد الأحمر، مفتونين بصرخات الجماهير تحييهم. وغير بعيد عن هذا الصخب، كان رجل ستيني يقف في الشارع يرتدي بذلة بيضاء، ويحرك بعصا خشبية سكرا، يتحول إلى حلوى غزل البنات، يبيعه مقابل دريهمات، هذا الرجل قال لي وأنا أنتظر طلبي: «الآن كلنا فوق الأرض، وغدا كلنا وبدون استثناء سنكون تحت الأرض، لا فرق بيننا إلا من يفهم حكمة هذه الدنيا، فلا يخشى أحدا إلا الله، ولا يقول إلا حقا، اسمعي، يا ابنتي، عندك درهم عيشي بدرهم، وعندك مائة عيشي بمائة، المهم أن تستمتعي بما لديك، ولا تنظري إلى ما بيد الآخرين».
حفرت كلمات الرجل في ذهني، ولم أنسها يوما، وتذكرت بساطته التي منحته تلك القوة من أجل تحدي «وضعه الفقير»، حتى لا يكون مجرد مواطن «بئيس»، ولم أكن أعرف أني بعد ساعات سأكون على موعد مع درس آخر من بسطاء هذا الوطن، الذين امتلؤوا حكمة، كنت هذه المرة على موعد مع سيدة اسمها «فاظمة»، التقيت بها بالصدفة وأنا أتجول بين حقول قلعة مكونة مع زملاء لي باحثين عن عائلات أمازيغية تقبل أن نلتقط لها صورا، كانت بحقلها تتناول الفطور مع أبنائها.. كانت في عقدها السادس، لا تتحدث الدارجة، لكن روحها المرحة جعلتنا نتواصل رغما عن أنف حاجز اللغة. قالت لي وهي ترمي برجلها كأنه تضرب كرة القدم: «خذيها مني حكمة، لكي تتغلبي على الحياة خاصك ضربيها بركلة».
بين حكيم مراكش وحكيمة قلعة مكونة، تعلمت أن البؤس ليس في ألا يكون لديك المال، أو أن تكون فقيرا، أو معدما، بل أبشع أنواع البؤس هو في أن تكون مالكا للمال، لكن ليس لديك الوقت لتستمتع به، أو أنك ميسور، لكنك تشعر بأنك فقير لأن الآخر لديه مال أكثر منك.
أبشع أنواع البؤس أن تكون متوفرا على كل أسباب السعادة، لكنك تختار أن تكون واحدا من هؤلاء البؤساء.