شوف تشوف

الرئيسيةملف التاريخ

الانقلاب المنسي ….حين اسقط علماء وقضاة وصودرت ممتلكاتهم

القصة غير المروية لضحايا لوائح الخونة في قضية مبايعة ابن عرفة

يونس جنوحي
«بعض المقالات الصادرة في صحف القاهرة المصرية، تناولت موضوع نفي العلامة الكبير عبد الحي الكتاني إلى فرنسا، واعتبرت مغادرته المغرب خسارة كبيرة للمغاربة، وتساءل كاتب المقال، عن سبب مؤاخذة العلامة عبد الحي الكتاني واعتباره أحد أبرز الأسماء في لائحة الخونة، مقابل العفو عن التهامي الكلاوي الذي هندس وقاد أكبر تمرد ضد الملك الراحل محمد الخامس، وفي الأخير حظي بالعفو وتوفي في داره سنة 1956 بمراكش.
هذه الكواليس تكشف إلى أي حد كان ملف الخونة بعد عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى شائكا وشديد الحساسية.
حسب أرشيف صحيفة السعادة لشتنبر 1953، فإن بعض المقربين من الباشا الكلاوي ونائبه في رئاسة محاكم مراكش، كانوا قد جمعوا الناس للخروج في مظاهرات ترفع صور ابن عرفة مباشرة بعد محاولة الاعتداء عليه أثناء خروجه للصلاة في واحدة من أولى مناسبات ظهوره إلى العلن سلطانا جديدا للمغرب.
هذه المظاهرات كان الغرض منها تحسين شعبية ابن عرفة على إثر الرفض الشعبي العارم له».

من أرشيف Le petit Marocain حيث أنجزت تغطية للمظاهرات المناصرة لابن عرفة والتي حشد إليها سكان البوادي

هؤلاء وجدوا أنفسهم في مأزق أداء مهام سيادية تحت إمرة ابن عرفة
يبقى أرشيف جريدة «السعادة»، و«Le petit Marocain»
أحد أهم المصادر الصحافية التي أرخت لأزمة العرش في المغرب.
إذ أن الصحيفة الناطقة بالفرنسية نشرت خبر توشيح عبد الحي الكتاني بوسام الشرف والذي وشحه به الجنرال كيوم عرفانا بما أسمته الصحيفة «مجهوداته» للم شمل الأعيان وتوحيدهم لمبايعة السلطان الجديد.
رئيس المحكمة العليا، وقد كان مقرها في قلب الرباط في البناية التي تحولت إلى مقر للبرلمان الحالي، توجه بدوره إلى مراكش للقاء ابن عرفة في اجتماع عقد بدار الباشا الكلاوي، حيث رافقه من الرباط أيضا المستشار القانوني حيث قدم الاثنان آيات الولاء لابن عرفة باعتبارهما ممثلا مؤسستين سيادتين كان محمد الخامس قد عينهما في المنصبين قبل نفيه، وهو ما اعتبر لاحقا خيانة لثقة الملك الراحل محمد الخامس، رغم أن المتعاطفين معهما اعتبروا الأمر على أنه تصريف فقط للمهام الإدارية الموكولة إليهما وأن الأمر كان أكبر من أن يرفضاه. بحكم أن باشا سلا بدوره، العلامة الحاج الصبيحي، الذي كان يحظى بتقدير كبير من الأعيان والعلماء والقضاة وكبار المستشارين المخزنيين، كان بدوره مطالبا بأوامر عليا بحشد الناس لتهنئة ابن عرفة عند قدومه إلى القصر الملكي في الرباط، مع تشديد من الإدارة الفرنسية ألا تكون هناك أي مفاجآت أو مظاهرات مطالبة بإعادة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى.
إلى جانب هؤلاء، نجد أسماء آخرين أمثال العلامة بنعيسى الخلطي بالإضافة إلى أعضاء آخرين من هيآت الإفتاء الرسمية، والذين كانوا معروفين باجتماعاتهم الشهرية مع الملك الراحل محمد الخامس، أو إحيائهم لحفلات دينية على شرفه كلما زار مدينة مكناس التي كان دائم التردد عليها قبل المنفى. وهؤلاء وجدوا أنفسهم مجبرين على تقبل سلطة ابن عرفة. حيث ذكر أرشيف صحيفة السعادة أن الكاتب الأول بمحكمة الباشوية في سلا، أوكلت إليه مهمة عسيرة، اعتُبرت لاحقا انتحارية، حيث كان عليه أن يلقي كلمة بحضور العلماء يدعوهم فيها إلى أداء فروض الطاعة والولاء لابن عرفة. وهو الخطاب الذي ألقي ثلاثة أيام فقط بعد نفي الملك الراحل محمد الخامس خارج المغرب، أي أن الخطاب ألقي ما بين يومي 23 و24 غشت 1953. وهذا الخطاب كان عبارة عن رسالة تدعو إلى بيعة ابن عرفة، وقد وقع عليه الذين استمعوا إليه، وهي التهمة التي وجهت لهم لاحقا بالخيانة والتآمر. علما أن التوقيعات كانت في سياق تسجيل الحضور أثناء الاستماع لمضمون الرسالة الداعية إلى بيعة السلطان الجديد بعد نفي السلطان محمد بن يوسف، ولم يكن مضمونها تحريضيا بعكس لوائح أخرى كانت تحشد الدعم وتدعو لعقاب المطالبين بعودة السلطان الشرعي.
وهكذا وجد الموقعون (وأبرزهم، عبد القادر العلوي، ومحمد الزرهوني، والدغوسي، ثم الطاهر البعاج بالإضافة إلى علماء آخرين أمثال الحاج محمد التراب وبعض العدول ورؤساء الزوايا)، أنفسهم في مأزق تهمة الخيانة رغم أن بعضهم دافعوا عن أنفسهم قائلين إنهم وقعوا من باب تسجيل الحضور أثناء الاستماع للرسالة التي قرئت عليهم.

تقارير SDEC الفرنسية تناولت مواقف متناقضة لسياسيين مغاربة بخصوص وطنيتهم
تعاملت المخابرات الفرنسية ممثلة في عملاء جهاز SDEC في ماي سنة 1954 مع مواقف متناقضة لبعض المسؤولين المغاربة. خصوصا الذين كانوا في مناصب مقربة جدا من ابن عرفة. وهؤلاء أخبروا بعض المقربين منهم أنهم مجبرون على مزاولة مهامهم على مضض داخل القصر الملكي وبعض المكاتب الوزارية داخل المشور السعيد، وأنهم يريدون العودة إلى أيام اشتغالهم إلى جانب السلطان المنفي محمد بن يوسف، بدل التعامل مع أعوان ابن عرفة الذين كان بعضهم دخلاء على دار المخزن، حيث نزلوا داخلها بإيعاز من الباشا الكلاوي.
أحد هؤلاء كان من أسرة الجعايدي، حيث كان يعمل داخل مكاتب المشور بالقصر الملكي بالرباط، وأسرّ إلى عميل للمخابرات الفرنسية كان يقدم نفسه من رجال الأعمال بمدينة الرباط، وأخبره أنه كان يحس باستمرار بالذنب والعار، خصوصا أن أزمة العرش بقيت مستمرة ولم تطو بجلوس ابن عرفة على العرش، بل استمر الرفض والاحتجاج وتعالت أصوات المطالبة بعودة الملك محمد الخامس إلى البلاد.
لم يكن هذا شأنه فقط، وإنما كان شأن آخرين عبروا عن ندمهم ولو بعد فوات الأوان سنة 1955، حيث استغلوا لقاءهم مع الملك الراحل محمد الخامس أثناء تفقده للقصر الملكي، حيث لاحظ أن جل ممتلكاته وأثاث بعض المكاتب قد اختفى، وطلبوا منه الصفح وهو ما استجاب له محمد الخامس على الفور. بينما كان آخرون أقل حظا ولم يحظوا بفرصة طلب الصفح إلى أن بثت المحكمة العليا في أمرهم، وصدرت أحكام عقابية في حق أغلبهم تقتضي مصادرة أملاكهم بينما بادر آخرون بمجرد الإعلان عن إذعان الإدارة الفرنسية لمطالب الحركة الوطنية، إلى مغادرة المغرب بحرا صوب فرنسا في انتظار ما قد تحمله الأيام من مفاجآت. وقد كانت فترة انتظارهم قصيرة جدا، إذ سرعان ما حسم الأمر بعودة محمد الخامس إلى باريس أولا، حيث تم التمهيد لاتفاق تدارس استقلال المغرب وعودة الملك الراحل محمد الخامس قبل ذلك إلى العرش.

المظلومون.. قصص شخصيات ألصقت بها تهمة الخيانة وأنصفها القصر لاحقا
وجد بعض العلماء المغاربة أنفسهم أمام وضع لا يحسدون عليه. بسبب مواقفهم من بعض الموظفين الكبار في الدولة أيام حكم المولى محمد بن يوسف. إذ أن هؤلاء كانوا يشكلون نخبة العلماء المغاربة، وكانوا رافضين للحماية الفرنسية بالمطلق ويستندون في مواقفهم إلى تعاليم الدين الإسلامي وآراء بعضهم الفقهية المتشددة عن التعامل مع النصارى وهيمنتهم على بلاد المغرب.

أما كيف تم الانتقام من هؤلاء العلماء، فقد كانوا موضوع مكيدة دبرت ضدهم من طرف بعض أعوان الداخلية سنة 1955، حيث وضعت أسماء بعضهم في لوائح الخونة التي رفعت إلى الملك الراحل محمد الخامس بعد عودته من المنفى وصدرت أحكام قضائية بعزلهم من مهام القضاء أو التدريس، وهو ما اعتبره بعضهم ظلما صريحا لهم، خصوصا الذين اشتغلوا في القرويين وطلبوا لقاء الملك الراحل محمد الخامس. وهو ما تم يوم 12 فبراير 1956، حيث قدم أزيد من خمسة علماء سابقين في القرويين ملتمسا للقاء الملك الراحل محمد الخامس وأكدوا له أنهم كانوا بعيدين عن كل الأحداث السياسية الحرجة وأنهم لم يجيشوا الناس ضد الملك محمد الخامس. حتى أن أحدهم قدم دليلا قاطعا أنه كان في موسم الحج، وهو الحاج محمد التمسماني الذي قدم للملك محمد الخامس صورة عن تذكرة ذهابه إلى الحج في الباخرة وتاريخ عودته منه بحكم أنه قضى أشهرا بعد نهاية موسم الحج في ضيافة بعض علماء مكة لنسخ بعض المخطوطات عن أحد علماء القرويين، لكنه في نفس الوقت كان متهما برفع الدعاء لابن عرفة في أحد مساجد المدينة القديمة في فاس. وهنا تدخل الملك الراحل محمد الخامس لتصحيح الوضع وأعطى الأمر لرفع الحجز عن مكتبته والسماح له بالعودة إلى الخطابة في المساجد وعُين لاحقا في وظائف بوزارة الأوقاف على عهد إشراف العلامة المختار السوسي على الوزارة.

هذه الواقعة، تؤكد إلى أي حد مارست بعض الأطراف سياسة الانتقام من بعض وجوه الأسرة العلمية في المغرب بعد الاستقلال، إذ كان الغرض هو تصفية عدد من الوجوه رمزيا.

إذ أن بعض المقالات الصادرة في صحف القاهرة المصرية، تناولت موضوع نفي العلامة الكبير عبد الحي الكتاني إلى فرنسا، واعتبرت مغادرته المغرب خسارة كبيرة للمغاربة، وتساءل كاتب المقال، عن سبب مؤاخذة العلامة عبد الحي الكتاني واعتباره أحد أبرز الأسماء في لائحة الخونة، مقابل العفو عن التهامي الكلاوي الذي هندس وقاد أكبر تمرد ضد الملك الراحل محمد الخامس، وفي الأخير حظي بالعفو وتوفي في داره سنة 1956 بمراكش.

هذه الكواليس تكشف إلى أي حد كان ملف الخونة بعد عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى شائكا وشديد الحساسية.

بن عرفة في غمرة استقبالات مسؤولين لتهنئته بجلوسه على العرش

رسالة نارية من ابن الصديق تنشر لأول مرة

دعا فيها البكاي إلى تعجيل محاكمته وقدم أدلة براءته من التآمر
في الشرق لا يحتاج العلامة أحمد بن الصديق إلى ترجمة، إذ أن قامته العلمية، خصوصا في أوساط علماء الأزهر بالقاهرة، كانت أشهر من أن يطلب أحد ما سيرته قبل تناول مقالاته أو مؤلفاته.

إلا أن وضعه في المغرب تغير كثيرا بعد سنة 1955، حيث وجد نفسه في دائرة المتهمين بالخيانة وتضررت سمعته كثيرا على خلفية اتهامه بمناصرة بن عرفة، واتُهم بالتحريض على التظاهر ضد الملك الراحل محمد الخامس، رغم أنه كان سجينا وقدم للوزير الأول، امبارك البكاي، دليلا ماديا قويا على بطلان التهمة التي وُجهت له، حتى يعرضها على الملك الراحل محمد الخامس بغيت إنصافه. وفي ما يلي، نص الرسالة التي ننفرد في «الأخبار» بنشر مضامينها لأول مرة:

«حضرة صاحب الدولة رئيس مجلس الوزراء بالحكومة المغربية

المحترم السيد مبارك البكاي

وبعد،

فبناء على الظهير الشريف القاضي بتثقيف أملاك الخونة والمتآمرين على العرش ومصلحة الدولة، وبناء على إدراج اسمي ضمن لائحة الذين يشملهم الظهير المذكور، أنهي إلى علمكم الكريم ما يأتي: إنه لمن المؤسف والمؤلم حقا، يا سعادة الرئيس، أن تتخذ احتياطات خطيرة كهذه من طرف حكومة مسؤولة دون أن تتوفر على الحجج الكافية لإدانة بعض من تشملهم اللائحة المذكورة طبق أبسط قواعد العدالة والشرع كما هو الشأن في إدراج اسمي ضمن هذه اللائحة مع أنني منذ كنت وأنا حرب على الخونة والخيانة والاستعمار، ولا يمكن بحال أن يثبت عني ولو في قضية واحدة أنني خدمت الاستعمار، أو تعاونت معه، أو أبدته بموقف من المواقف حتى ولو كانت مواقف مجاملة كحضور في حفلة، أو إلقاء كلمة، بل بالعكس، كانت مواقفنا بفضل الله تعالى كلها مشرفة، وضد المستعمر، إما في قضايا فردية – وهذه لكثرتها تكاد تكون من قبل مالا يدخل تحت حصر، وملفاتنا في إدارات المستعمر سواء في الشمال أو الجنوب شاهدة بذلك- وإما في قضايا علنية لعل خبرها لا يكون خافيا عليكم. وما محنتنا الأخيرة وتعرضنا للسجن والغرامة والنفي والإذاية والاضطهاد إلا من جراء موقفنا ضد المستعمر والقيام بعمل رجونا منه -علم الله- القيام ببعض ما يفرضه الدين من إعلان الحرب والجهاد ضد العدو والمستعمر. ومع أننا قضينا كل المدة التي حكم علينا بها في السجن، وهي ثلاث سنين ونصف أي من شهر فبراير 1950 إلى متم غشت 1953، لم يهدأ خاطر الاستعمار ولم ترضه تلك المدة، فعمد إلى الكيد والمكر والاحتيال، وقرر نفينا من جديد من غير مبرر ولا قانون أصلا، الأمر الذي اضطررنا إلى أن نبيع ما كان في ملكنا من فراش وأثاث وكتب لتسديد بعض ما كان قد ترتب علينا من ديون لأجل الحركة التي كنا قمنا بها، ولقوت العائلة الكبيرة التي تعرضت معنا لتحمل النفي والاغتراب. وعندما كانت خيوط المؤامرة الشنيعة تحاك في الخفاء وتدبر ضد محمد الخامس عُرض علينا، ونحن في السجن، أن نوافق على مبايعة محمد بن عرفة في مقابل أن يطلق سراحنا قبل انتهاء مدة الحكم. فرفضنا وتحملنا من أجل ذلك محنا جديدة ومضايقات شديدة يعلمها أهل مدينة أزمور وجميع زوارنا الذين ترددوا علينا في أثناء تلك المدة حتى أن منهم من سجن وضرب من أجل زيارته لنا. وهكذا تعرضت لمحنة أخرى داخل السجن بسبب رفضي لمبايعة ابن عرفة، ثم لمحنة النفي المصطنع والسجن والإذاية من جديد وضياع مكتبتي التي كانت أعز شيء لدي. ثم أشياء أخرى يطول شرحها وتعدادها. ولم أتمكن من الرجوع إلى داري الوحيدة التي أملكها إلا في ظل الاستقلال، ولولاه لكنت إلى الآن لا أزال مبعدا من غير قانون أصلا إلا قانون الانتقام. وها أنا ذا أتحدى كل واحد يتهمني بالمشاركة في المؤامرة من قريب أو بعيد أن يأتي ولو بشبهة بله الحجة تثبت له ذلك، وإن فعل -ولن يستطيع أبدا-فأنا أحكم على نفسي سلفا ومن غير احتياج إلى محاكمة، بالقتل. لا بتثقيف الدار فقط. ولذا فأنا أطلب من سعادتكم أن تعجلوا بمحاكمتي، وأن تجعلوني في طليعة من تحاكمهم المحكمة.
والسلام.
حرر بطنجة في 12 صفر 1377-8 شتنبر 1957- الإمضاء: أحمد بن الصديق».

صورة حصرية لقياد جاءوا إلى القصر الملكي سنة 1953 لإعلان ولائهم لابن عرفة الذي تزين صورته جدار القاعة

أعيان مراكش الذين نجوا من العقاب رغم ضلوعهم في المؤامرة
حسب أرشيف صحيفة السعادة لشتنبر 1953، فإن بعض المقربين من الباشا الكلاوي ونائبه في رئاسة محاكم مراكش، كانوا قد جمعوا الناس للخروج في مظاهرات ترفع صور ابن عرفة مباشرة بعد محاولة الاعتداء عليه أثناء خروجه للصلاة في واحدة من أولى مناسبات ظهوره إلى العلن سلطانا جديدا للمغرب.

هذه المظاهرات كان الغرض منها تحسين شعبية ابن عرفة على إثر الرفض الشعبي العارم له. وقد استعان وقتها أعوان الكلاوي وبعض العاملين في مكاتب الإدارة الفرنسية في مراكش، بسكان بعض الدواوير حيث أجبروهم على ركوب شاحنات تابعة للأشغال العمومية، وجيء بهم إلى مكان زيارة ابن عرفة ووزعت عليهم لافتات مناصرة له قصد حملها لاستقباله.

لكن حركة قامت بها خلايا المقاومة السرية، والتي كان من بين النشيطين فيها محمد الفقيه البصري في بداية نشاطه داخل التنظيم السري للمقاومة، أفشلت مخطط الإدارة الفرنسية. حيث هدد المقاومون كل المشاركين بالتصفية وهو ما أدى إلى هروب الناس في حال سبيلهم قبل حتى أن يمر موكب الحاكم الفرنسي ورئيس محكمة مراكش. وهكذا مُنيت الآلة الدعائية لابن عرفة بالفشل.

بقي الناس يتذكرون تلك الواقعة في مراكش، إلى أن جاءت سنة 1955، ومباشرة بعد عودة الملك الراحل محمد الخامس وأسرته من المنفى، حيث أعيد فتح ملف الواقعة من جديد بناء على شكايات قدماء المقاومة أثناء استقبال الملك الراحل محمد الخامس لهم في القصر الملكي بالرباط بعد أسبوعين فقط من عودته إلى المغرب. حيث تلقى الملك شكايات شفهية وأخرى مكتوبة إلى ديوان ولي العهد، يطلب فيها بعض قدماء المقاومة من مراكش أن تتم محاسبة رئيس المحكمة السابق في مراكش، وبعض الموظفين المقربين من الباشا الكلاوي الذي عفا عنه الملك الراحل محمد الخامس، وذكروا في الشكاية أن هؤلاء الموظفين عرضوا حياة الناس للخطر في سنة 1953 عندما استعملوهم في دعاية لتحسين سمعة ابن عرفة خلال أزمة العرش، وجعلوهم دروعا بشرية أمام أعضاء المقاومة الذين خططوا لاغتيال بن عرفة في أكثر من مناسبة سواء في مراكش أو في الرباط.

وأحد أبرز هؤلاء كان هو الحاج بن رحمون، والذي كان يشغل منصب قاض، ولم يكن يفارق الباشا الكلاوي في كل جلساته الخاصة وشاع أيضا أنه كان يؤلف للباشا الكلاوي معظم الخطابات والبلاغات التي سلمها للإذاعة للإبلاغ عن نفي الملك الراحل محمد الخامس أو اعتماد موظفين جدد لدى السلطان الجديد ابن عرفة.

بالإضافة إلى هذا القاضي، كان أكثر الذين طالب قدماء المقاومة بنفيهم والانتقام منهم، هم:

أحمد الزموري، أو «سي أحمد»، والذي كانت تجمعه بالباشا الكلاوي قرابة الدم، بحكم أنه سليل أسرة تربطها مصاهرات مع الكلاوي شخصيا. بالإضافة إلى أنه كان موظفا مخزنيا ساميا منذ أيام المولى الحسن الأول، حيث تدرب على وظائف كتاب الوزارات في القصر الملكي بمراكش وتوج مساره بمنصب سكرتير المولى عبد الحفيظ قبل أن يتقاعد.

ثم يأتي اسم الحاج القباج، وهو أيضا من الذين طالبت الجماهير الغاضبة برأسهم، ووقع الملك الراحل محمد الخامس على قرار المحكمة العليا بالرباط سنة 1956 بمصادرة ممتلكاته لأنه كان يمول خطة زيادة شعبية ابن عرفة وكان يدفع من ماله الخاص مصاريف إقامة التجمعات الخطابية والمواسم التي حاول من خلالها أنصار ابن عرفة الترويج له كسلطان شرعي للبلاد. كما وضع فيلا فخمة كان يملكها في الرباط، رهن إشارة بعض الموظفين الجدد الذين تكلفوا بمهمة الإشراف على ديوان ابن عرفة. وهي الفيلا التي تمت مصادرتها لاحقا شأنها شأن ممتلكات أخرى.

قصص عمارات وإقامات فخمة صودرت بأحكام قضائية عقابا على الخيانة
لعل أشهرها هي دار المقري، وهي قصر فخم شيده الصدر الأعظم، رئيس الوزراء في عهد السلطان محمد بن يوسف، في الرباط ليكون إقامة مريحة لهذا الوزير القوي الذي تسلق الرتب الإدارية قادما إليها من خارج عالم المخزن. إذ أنه لم يكن ابن أسرة مخزنية، وعرف عنه أنه جاء إلى قصر محمد الخامس في نهاية عشرينيات القرن الماضي باقتراح من الإدارة الفرنسية بحكم أنه كان يعرف أصول العمل المكتبي الفرنسي بحكم خبرته بالشأن الجزائري سابقا.

الحاج المقري كان وفيا للملك محمد الخامس، لكن عندما برزت أزمة العرش على السطح سنة 1953 اصطف إلى جانب الإدارة الفرنسية وكان أول داعم لقرار المنفى وأول داعم أيضا لجلوس ابن عرفة على العرش.

وبعد عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى أصبح الحاج محمد المقري من المغضوب عليهم، حيث أثبت الوقائع والأرشيف الرسمي أيضا للتعليمات الصادرة من وزارته، أنه مارس دورا كبيرا في تنفيذ قرارات الإدارة الفرنسية ومهد الطريق أمام ابن عرفة لممارسة مهام السلطان داخل القصر الملكي بالرباط.

ورغم أن التهامي الكلاوي، الذي كان مهندس وصول ابن عرفة إلى الحكم وأكبر داعميه قد حظي بالعفو من السلطان شخصيا، إلا أن الحاج المقري لم يكن محظوظا كفاية لكي يحظى بنفس المصير. إذ أنه لم يطلب العفو كما طلب الباشا الكلاوي، بالإضافة إلى أنه حاول الاحتماء بالإدارة الفرنسية التي لم تذكر له صنائعه معها. إذ كانت مرحلة 1955 تقتضي بأن تحاول فرنسا امتصاص الضغط المفروض عليها في المغرب بعد عودة محمد الخامس إلى البلاد، وكانت الطريقة الوحيدة هي تغييب الوجوه القديمة التي استعانت بها فرنسا لفرض قراراتها ما بين 1953 و1955، وكان الحاج المقري أبرز هؤلاء.

صودر منه قصره الذي كان مثالا للفخامة بين الرباطيين، وأصبح اسمه مقترنا بالتعذيب والاختفاء القسري، حيث سيطر البوليس السياسي التابع للإدارة العامة للأمن الوطني عقب تأسيسها على يد الاستقلالي الغزاوي، على قصر المقري، أو «دار المقري» كما يسميها الرباطيون، وذكر عدد من ضحايا التعذيب والاختفاء القسري أنهم خضعوا للاستنطاق داخل تلك الدار، وهو ما جعل اسم المقري يقترن بكل تلك الفظاعات رغم أنه لم يكن في السلطة عند وقوعها.

بالإضافة إلى إقامة الحاج المقري الفخمة، كانت هناك عمارات في الرباط مملوكة لبعض الأعيان الذين ظهروا في صور تقديم التهاني لابن عرفة في القصر الملكي بالرباط، ومنهم من كانوا يسعون وراء مصالحهم الخاصة، قدموا هدايا ثمينة للسلطان الجديد في أول احتفال بذكرى تنصيبه على العرش طمعا في الحصول على امتيازات، وقد كانت عقوبة هؤلاء أن تمت مصادرة أملاكهم بمقرارات قضائية، حيث فوتت لاحقا إلى ملكية وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.

تنضاف إليها مجموعة من الضيعات الفلاحية نواحي الرباط وسلا والقنيطرة والجديدة. حيث تحولت تلك الضيعات إلى ملكية الدولة بعد مصادرة أملاك أصحابها واختيار أغلبهم مغادرة المغرب نهائيا، وقد تم إهداء بعضها إلى موظفين سامين وضباط في الجيش في بداية ستينيات القرن الماضي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى