الانفلات الشعري
سعيد الباز
دأب العالم على الاحتفال باليوم العالمي للشعر، الذي يصادف 21 من شهر مارس كل سنة. هذا الاحتفال الذي تبنته منظمة اليونسكو كان فكرة فلسطينية ومغربية من حيث الإنجاز والمتابعة وكسب الدعم في أروقة منظمة اليونسكو. وكان من أهم أسباب نجاح الفكرة وجود فريدريكو مايور على رأس المنظمة، الذي كان هو الآخر شاعرا إسبانيا متحمسا للفكرة وساعيا إلى إنجاحها وتوفير كل سبل الدعم لها.
تبدأ حكاية خلق يوم عالمي للشعر بمهرجان ربيع الشعر الفلسطيني، الذي انعقد في شهر ماي 1997 بالعاصمة الفرنسية باريس شارك فيه ثلاثة شعراء فلسطينيين: محمود درويش وفدوى طوقان وعز الدين المناصرة. عرف المهرجان نجاحا كبيرا ومتابعة إعلامية استثنائية لم يسبق لفرنسا أن شهدت مثيلا لهما، فكانت لمحمود درويش أمسية شعرية بجامعة السوربون ولفدوى طوقان وعز الدين المناصرة أمسية أخرى بمسرح موليير، تلتها عدة أمسيات في المدن الفرنسية الكبرى. خلال هذا المهرجان أقيم كذلك حفل تكريم بمناسبة منح الحكومة الفرنسية لمحمود درويش وسام الاستحقاق الوطني برتبة فارس، وتقديم البيان الذي أصدره الشعراء الثلاثة يحمل عنوان (الشعر روح الإنسان، الشعر جسد العالم)، الذي تم تذييله بالعبارة التالية: نطالب منظمة اليونسكو الدولية بضرورة اعتماد يوم عالمي للشعر.
كان للمغرب من خلال هيئاته الثقافية من بيت الشعر واتحاد الكتاب، وتبني الحكومة المغربية حينئذ هذا المطلب داخل منظمة اليونسكو الفضل في التصويت عليه في المجلس التنفيذي للمنظمة الدولية، الذي حدد الأهداف الأساسية لهذا الاحتفال بيوم عالمي للشعر، تتجلى في دعم التنوع اللغوي من خلال التعبير الشعري، وإتاحة الفرصة للغات المهددة بالاندثار بأن يُستمع إليها في مجتمعاتها المحلية. وعلاوة على ذلك، فإن الغرض من هذا اليوم هو دعم الشعر، والعودة إلى التقاليد الشفوية للأمسيات الشعرية، وتعزيز تدريس الشعر، وإحياء الحوار بين الشعر والفنون الأخرى مثل المسرح والرقص والموسيقى والرسم وغيرها، كما أن الهدف منه أيضا هو دعم دور النشر الصغيرة، ورسم صورة جذابة للشعر في وسائل الإعلام، بحيث لا ينظر إلى الشعر بعد ذلك كونه شكلا قديما من أشكال الفن.
وتشجع اليونسكو الدول الأعضاء على القيام بدور نشيط في الاحتفال باليوم العالمي للشعر، سواء على المستويين المحلي والوطني، وبالمشاركة الإيجابية للجان الوطنية والمنظمات غير الحكومية والمؤسسات المعنية مثل: المدارس والبلديات والمجمعات الشعرية، والمتاحف والرابطات الثقافية، ودور النشر، والسلطات المحلية وغيرها… إن هذه الأهداف المرسومة تجعلنا اليوم نسائل من جديد إلى أي حد ساهم هذا الاحتفال فعلا في الرفع من شأن الشعر وتداوله؟ إن أقرب ملاحظ سيكون في مقدوره القول دون أي حرج إن مسألة الاحتفال قد صارت شكلية وذات طابع موسمي، ولا تخرج في بعض الأحوال عن القيام بها لرفع العتب، أو مجرد مجاراة الآخرين من باب التقليد والمحاكاة.
هذه الاحتفالات ورغم كثرتها يغيب عنها التصور الواضح للأهداف والغايات في مواجهة أزمة حقيقية يعيشها الشعر المغربي اليوم، نحن في الواقع نعيش حالة انفلات شعري وما عاد هناك معيار نستطيع أن نحتكم إليه في الحسم ما بين ما هو شعري وغير شعري، ما دام النقد غائبا والمؤسسات الثقافية تائهة، فإن مسألة أن تكون شاعرا من عدمه أمر صار يحددها الشخص نفسه ومكانته أو علاقاته وقدرته أن ينشر ما يريد تحت مسمى الشعر، دون حاجة إلى امتلاك وعي شعري أو حتى ثقافة شعرية.
هذا الانفلات سيخلق الكثير من الشعراء، فيما الشعر يتوارى أكثر فأكثر… مرة قال الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا لخطيبته: «لا تقولي للناس أنا شاعر، أنا في أفضل الأحوال كاتب أشعار»… ذلك أن الشاعر الحقيقي يتحرج دائما من هذا الاسم.