مع ابتداء الصناعة الحديثة، شرع الإنسان في الإعلان عن انشقاقه عن الطبيعة، وطلاقه نظامها وانتحاله نظاما خاصا به يقابل نظام الأولى، أو يقوم على ما يقابل قوانينها ليبطل مفعولها. لملايين السنين، عاشت كائنات الطبيعة في البيئات التي هيأتها لها الطبيعة بوصفها البيئات المناسبة للحياة؛ ولملايين السنين، ظلت الطبيعة تفرض أحكامها على كائناتها وتحملها على التكيف مع شروطها وتغير الشروط قصد استنقاذ وجودها من فناء يفضي إليه عسر وجود شروط البيئة المناسبة. وما أكثر كائنات الطبيعة – الحيوانية والنباتية – التي يطلعنا علم الأحياء على القوى والقدرات الجديدة التي اكتسبتها من معركة التكيف تلك مع شروط الوجود الطبيعي، فارتفعت بها معدلات قدرتها على حفظ وجودها وبقائها. لقد ظلت الطبيعة رحيمة بكائـناتها حتى في قسوتها عليها؛ فكانت قسوةُ تغير الشروط فيها أشبه ما تكون باختبار لتلك الكائنات من أجل رياضتها على مقاومة أسباب الفناء، واجتراح السبل إلى الحياة.
مس الإنسانَ من رفد الطبيعة ومن امتحانها لوجوده ما مس سائر الكائنات الحية فيها. ولردح من الزمن – لا يُعْلم كم يكون على وجه التحقيق (مليون عام أو أكثر) – لم يكن وجود الإنسان وفعلُه وتفاعُلُه مع المحيط محكوما سوى بقوانين الطبيعة: يخضع لها، ويتكيف مع ضغوطها عليه. وحتى حينما أصبح كائنا عاملا لا يكتفي بما تمدُه به الطبيعة – شأن سائر الكائنات الحية -، فإن اهتداءه إلى سبل الإنتاج مثل الزراعة – وكان ذلك قبل بضعة آلاف من السنين فقط – ما كان ليضعه في موقع خصومة معها أو ميل إلى الانفصال عن نظامها؛ ذلك أنه أدرك، بقوة الاختبار، أن عمله الذي انتحله له (= الزراعة) معلق على صليب الهباء إن لم تسعفه الطبيعة – هو نفسه – بأسباب الحياة من ماء وحرارة وتربة خصبة… إن الزراعة ليست شيئا آخر غير محاكاة الطبيعة وإعادة إنتاجها، وبالتالي هي محكومة بذات القوانين التي تنحكم بها ظواهر الطبيعة الأخرى.
ولم يبدأ الشجار يدب في علاقة الإنسان بالطبيعة إلا بعد أن بدأت أسرار الأخيرة تنتهك فتخرج في وعي الإنسان، من المجهول إلى المعلوم. صحيح أن هاجس معرفة ما وراء ظواهر الطبيعة من علل، بعيدة أو قريبة، ظل يلازم الإنسان ولم يكد أن يبارحه لحظة خلال آلاف السنين؛ وصحيح أن مستغلق الطبيعة هذا هو الذي فتح الأبواب أمام التفسيرات الأسطورية ثم الدينية، كما أمام توسل السحر… في محاولة لفك استغلاقه، لكن ذلك الهاجس سيشهد على منعطف حاسم في التعبير عن نفسه مع ميلاد العلم في الحضارات القديمة، ثم امتدادا إلى العصر الحديث، ثم مع النجاح الذي أحرزه هذا العلم في رفع الغموض والإبهام عن كثير من مكونات الطبيعة وقوانينها وآليات عملها. أما لماذا كان ذلك منعطفا؟ فلأن التفكير في علل الوجود الطبيعي انتقل من النظر في علل خارج الطبيعة إلى النظر في علل داخلية محايثة، وبالتالي ركز بؤرة الضوء على داخل في الطبيعة كان – قبل العلم – خارج الأفق الذهني للإنسان، فكان من ذيول ذلك أن رفع عن الطبيعة كل قداسة وحرمة كان يحتفظ الإنسان بشعور بهما تجاهها من حينها – أعني منذ شرع في معرفة أسرار الطبيعة – تناقص معدل خوفه منها ومن مفاجآتها، ولكن – وهذا هو الأسوأ – ارتفعت درجة اجترائه عليها.
نشأ، في الأثناء، معتَـقدٌ في وعي الإنسان لم يبارحه حتى الآن: العلم سلاح لمعرفة الطبيعة من أجل السيطرة عليها وإخضاعها. انتهت علاقة الإنسان بالطبيعة بما هي علاقة حب بين ابن وأمـه – على ما كانته واستمرت عليه دهورا – لتبدأ علاقة أخرى مبناها على مَوْضَعةِ الطبيعة كجسم خارجي، براني عن الإنسان وموضوعٍ لفعالية تروم إخضاعه له وتسخيره لمصلحته. منذ ذلك الحين من فجر العصر الحديث، وحيث الإنسان مختال بنتائج الثورة العلمية في الفلك والميكانيكا والفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والجيولوجيا… ما عاد الأخير يُبْطِن مشاعر القوة والسيادة على الطبيعة، ولا عاد يدخر جهدا لمزيد من اعتصارها لاستخراج ما يريده والتعامل معها وكأنها عدو ينبغي شل قدرته على التأثير المعاكس. لقد شاء إنسان العصر الحديث؛ المتسربل بأوهام القوة والسيطرة، أن يدق الإسفين في علاقته بالطبيعة وأن يشرع في اجتراح النظام الموازي الذي يُبطل مفعول نظامها (أي التقنية) ويفرض عليها الخضوع التام. وبكلمة، شاء أن يدشن علاقة جديدة وسيئة بها: علاقة العدوان عليها؛ العدوان الذي شرعنه وبرره لنفسه بزعم أنها مُسَخَّرَة له وحده!
المفارقة الكبرى في هذا الباب؛ تلك التي لا يملك الناظر في صلات الإنسان بالطبيعة أن لا يلحظها وأن لا تستوقف نظره، هي المفارقة التالية: كان الإنسان أكثر إنسانية تجاه الطبيعة وأمه الأرض حين كان جاهلا أسرارها، ذاهلا عن نظامها الذي ينتظمها، وبالتالي كان مستسلما لحنانها ولغضبها معا. أما حين احتاز ملكة المعرفة والعلم بما يؤسس نظام الطبيعة الذاتي، فقد صار أكثر وحشية تجاهها وأشد فتكا بها! فكأنما نعمة العلم صارت عنده نقمة، فتحول من مورد للبناء إلى معول للهدم! وهل ثمة، اليوم، ما هو أبلغ تعبيرا عن نزعة الهدم والإفناء من عملية التدمير الهمجي للبيئة الجارية حثيثا في عصر العلم والتقنية؟ إنه الانشقاق العظيم عن الطبيعة وقد اتخذ شكل انقضاض عليها.
عبد الإله بلقزيز