بينما تخوض الانتخابات التركية مرحلة مهمة ستقرر من خلالها نهج البلاد وسياساتها الداخلية والخارجية، يراقب الإعلام الغربي والعواصم الغربية هذه الانتخابات بشكل خاص، حيث ترى عدة دول أوروبية أنه يمكن لتركيا، في حال فوز المعارضة، أن تصبح ببساطة شريكا مهما لها، متهمة زعيم حزب العدالة والتنمية بالديكتاتور عدو الديمقراطية والحرية.
سهيلة التاور
بينما ينتظر الأتراك جولة حاسمة للانتخابات الرئاسية في البلاد يوم 28 ماي الجاري، تابع العالم باهتمام كبير نتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، التي تمثل مفترق طرق للبلاد، وقد تكون الأكثر أهمية منذ تأسيس الجمهورية التركية على يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1923. وكانت صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية نشرت، مطلع العام الجاري، تقريراً عنوانه «الانتخابات الأهم في العالم خلال عام 2023 ستكون في تركيا»، ألقى الضوء على الأسباب والملابسات التي تجعل ذلك السباق الانتخابي بهذه الأهمية، ليس فقط لتركيا، ولكن للعالم أيضاً.
فنتائج الانتخابات التركية سيكون لها تأثير مباشر على صياغة الحسابات الجيوسياسية في واشنطن وموسكو، إضافة إلى عواصم في أوروبا والشرق الأوسط ووسط آسيا وإفريقيا أيضاً. ولا شك أن الدور والتأثير التركي في الشؤون الدولية يمثل شهادة على إنجازات أردوغان خلال عقدين من وجوده على رأس السلطة في البلاد. ورغم ذلك فإن سعي المعارضة التركية للإطاحة بالرئيس، صادف هوى الغرب بشكل لافت، وانعكس ذلك في التغطية الغربية الإعلامية للانتخابات.
فما سيقرره الناخبون الأتراك لن يتعلق فقط بمن سيحكم البلاد، لكن بكيفية الحكم أيضاً، والمسار الاقتصادي الذي ستسلكه تركيا، ودورها في تخفيف حدة الصراعات العالمية والإقليمية، مثل الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.
وتبنت وسائل إعلامية غربية كبرى موقفاً معادياً لأردوغان وحزب العدالة والتنمية بشكل معلن، لا يتفق مع الموضوعية المفترضة في العمل الإعلامي، فالصحف البريطانية والألمانية والفرنسية رفعت شعار «إسقاط أردوغان» دون خجل أو مراعاة لأبسط قواعد العمل الإعلامي، في انعكاس واضح لأمنية الغرب في التخلص من الرئيس التركي وحزبه الحاكم.
من جانبها نشرت مجلة «الإيكونوميست» البريطانية عنواناً رئيسياً على صحفتها الأولى يقول: «ليسقط أردوغان من أجل تحقيق الحرية والخلاص من الخوف»، ونشرت مجلة «دير شبيغيل» الألمانية، على غلاف صفحتها الأولى هي الأخرى، صورة للرئيس رجب طيب أردوغان جالساً على كرسي هلاله مكسور، وكتبت بالخط العريض: «أردوغان، الفوضى أم الانقسام في حال خسارته للرئاسيات؟».
ونشرت مجلة «لو بوينت» الفرنسية، التي تعاملت مع الانتخابات التركية كما لو أنها شأن داخلي في فرنسا الغارقة في أزماتها المتعددة، مقالاً طويلاً لصحافي بها يعتبر نفسه خبيراً في الشأن التركي، وضع له عنوان «أردوغان بوتين آخر».
ونشرت مجلة ” The Economist” البريطانية ذاتها، التي طالبت بإسقاط أردوغان، تحليلاً عنوانه «رجب طيب أردوغان يُربك الحسابات»، في اعتراف ضمني، ليس فقط بخسارة المعارضة ولكن أيضاً بالصدمة التي اجتاحت مراكز صنع القرار في العواصم الغربية.
واختارت المجلة البريطانية أن تنطلق في تحليلها من عدم حسم الرئيس التركي للانتخابات من الجولة الأولى، فكتبت «على الرغم من أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لم يتمكّن من بلوغ عتبة الانتصار المطلق في الانتخابات لأول مرة منذ مدة طويلة، فإن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية التي جرت يوم الأحد 14 ماي، حملت في مآلها أسوأ نتيجة تصورتها قوى المعارضة في البلاد».
وهكذا انتظر الغرب فوز المعارضة بأغلبية البرلمان، أغلبية كبيرة تسمح للأحزاب المدعومة من الغرب بتغيير الدستور التركي، وفوز كليجدار أوغلو بالرئاسة، ودعم ذلك باستطلاعات رأي تزعم أن أردوغان وتحالفه يتأخر فيما كليجدار أوغلو وتحالفه يتصدر السباق.
وفي هذا السياق، جاءت النتائج الأولية بفوز تحالف الجمهور الذي يقوده حزب العدالة والتنمية برئاسة أردوغان بالأغلبية البرلمانية، قبل حتى أن يكتمل فرز الأصوات بشكل كامل، بمثابة الصدمة المربكة التي أفسدت مخططات الغرب وأمنياته.
تخوف أمريكي
قالت صحيفة «نيويورك تايمز» إن ما سيقرره الأتراك ستكون له تداعيات كبيرة على عدد من الملفات العالمية، سواء ما يجري في أوكرانيا وسوريا، أو المهاجرين في أوروبا، وأيضا في ملفي التجارة والاقتصاد.
وقالت الصحيفة إن «القادة الأوروبيين، ناهيك عن إدارة بايدن، سيكونون سعداء إذا خسر أردوغان».
ونقلت عن كارل بيلت، رئيس الوزراء السويدي السابق، قوله الجمعة: «كلنا نريد تركيا أسهل».
ومن جهة أخرى، قالت الصحيفة إن روسيا تعتمد كثيرا على نتائج الانتخابات التركية، مضيفة أنه في عهد أردوغان، أصبحت تركيا شريكا تجاريا لا غنى عنه لروسيا، وفي بعض الأحيان وسيطا دبلوماسيا، وهي علاقة اكتسبت أهمية أكبر للكرملين منذ غزو أوكرانيا.
وأضافت الصحيفة أنه، من خلال رفض أردوغان فرض العقوبات الغربية على موسكو، فقد ساعد الرئيس التركي في تقويض الجهود الرامية إلى عزل الكرملين وحرمانه من الأموال اللازمة لتمويل الحرب.
وفي الوقت نفسه، تغذى الاقتصاد التركي المتعثر أخيرا على النفط الروسي المخفض بشكل كبير، ما ساعد أردوغان في سعيه لولاية ثالثة مدتها خمس سنوات.
وزاد أردوغان من غضب حلفائه الغربيين من خلال عرقلة محاولة السويد للحصول على عضوية في حلف شمال الأطلسي، وأصر على أن تقوم ستوكهولم أولا بتسليم عشرات اللاجئين الأكراد في البلاد، وخاصة من حزب العمال الكردستاني، الذي تعتبره كل من أنقرة وواشنطن منظمة إرهابية.
وقالت كاجا كالاس، رئيسة وزراء إستونيا، في مقابلة، إن حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي ينظران إلى الانتخابات بشكل مختلف.
وقالت إنه تحالف دفاعي و»تركيا واحدة من الحلفاء الذين لديهم قدرات عسكرية كبيرة» لمساعدة حلف شمال الأطلسي في جزء رئيسي من العالم، مضيفة «لا أعتقد أن أي شيء يتغير في ما يتعلق بحلف شمال الأطلسي في هذا الصدد أيا كان الفائز في الانتخابات».
وفي واشنطن، أدى انجراف أردوغان نحو الاستبداد، وعلاقاته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وخلافاته مع الناتو، إلى إثارة غضب المسؤولين، بل ودفع بعض أعضاء الكونغرس إلى اقتراح إبعاد تركيا من حلف الناتو، وفقا للصحيفة.
وبينما ستستفيد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وبدرجة أقل حلف شمال الأطلسي، من انتصار المعارضة، فمن شبه المؤكد أن ينظر إلى بوتين على أنه سيخسر بشكل كبير إذا تمت الإطاحة بأردوغان، وفقا للصحيفة.
وتقوم روسيا ببناء أول محطة للطاقة النووية في تركيا، ومنذ بدء الحرب أعلنت عن خطط لجعل البلاد مركزا لتجارة الغاز الطبيعي. لكن أردوغان لم يصل إلى حد تقديم الدعم المباشر لبوتين في الحرب بأوكرانيا، وأغضبت حكومته موسكو بالسماح ببيع طائرات مسلحة تركية إلى كييف.
وفي إشارة أخرى مثيرة للقلق بالنسبة للكرملين، اتهم كليجدار أوغلو، زعيم المعارضة، روسيا، الأسبوع الماضي، بالتدخل في انتخابات البلاد من خلال نشر «المؤامرات والتزييف العميق والأشرطة التي تم الكشف عنها في هذا البلد».
وكانت هذه إشارة إلى شريط جنسي مزعوم ظهر قبل الدورة الأولى من الانتخبات الرئاسية، مما دفع مرشحا رئاسيا صغيرا إلى مغادرة السباق.
وكتب باللغتين التركية والروسية: «ارفعوا أيديكم عن الدولة التركية»، مضيفا: «ما زلنا نؤيد التعاون والصداقة».
ووعد أوغلو بالحفاظ على العلاقات الاقتصادية مع روسيا إذا فاز بالرئاسة، ولكن لا يزال من غير الواضح ما إذا كان سيحافظ على التوازن الدقيق الذي يقوم به أردوغان في أوكرانيا.
التقارب التركي الروسي
أدى تقارب أردوغان مع روسيا إلى قطيعة كاملة مع واشنطن في عام 2017، عندما وافقت تركيا على شراء نظام صواريخ أرض-جو إس -400 من روسيا، وهو خط أحمر بالنسبة لأحد أعضاء الناتو، ما دفع الولايات المتحدة إلى فرض عقوبات على الدفاع التركي.
ويتناسب هذا مع نمط يعود إلى الحرب الباردة، عندما ساعد الاتحاد السوفيتي تركيا في تطوير البنية التحتية للصناعات الثقيلة في السبعينيات بعدما رفضت الولايات المتحدة طلب تركيا للمساعدة.
ومنذ حقبة الحرب الباردة، كانت موسكو «دائمًا الخيار الثاني لتركيا إذا كانت تعتقد أن واشنطن غير راغبة» في المساعدة، في حين أن موسكو «لم تخسر أبدًا فرصة لربط إسفين بين تركيا والغرب»، كما لاحظ أوزغور أونلوهيسارجيكلي، مدير مكتب أنقرة التابع لصندوق مارشال الألماني.
وأضاف جيفري مانكوف، من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن العاصمة: «يستخدم أردوغان وبوتين بعضهما البعض لتحقيق غاياتهما الخاصة». منذ عام 2015، نظرت روسيا إلى أردوغان كشخص يمكنها التعامل معه. وأردوغان كزعيم يُنظر إليه الآن على أنه سام في الغرب وهذا له فوائد لروسيا».
في هذا السياق، قدمت موسكو خدمة لأردوغان قبل حملته الانتخابية، وأشار أولجن: «لقد دعمت روسيا أردوغان بوضوح وقد أظهرت ذلك من خلال منحه مدفوعات مؤجلة على مشترياتها من الغاز الطبيعي بشكل أساسي مساعدة تركيا مالياً من خلال التخفيف. نوعا ما الضغوط على البنك المركزي التركي».
تركيا مطمع الغرب
يرى الغرب أنه يمكن لتركيا، في حال تم تنشيطها اقتصادياً، أن تصبح ببساطة شريكاً مهماً له، سيما أن الغربيين يسعون، بحسب الخبراء، إلى إعادة ضبط اعتمادها على الصين وتنويع سلاسل التوريد الخاصة بها، وهذا بدوره يدفعنا إلى الاستنتاج أن لكل من أوروبا والولايات المتحدة مصلحة في أن تغيّر تركيا نفسها. زد على ذلك أن أنقرة استفادت من أوروبا في الماضي وما زالت، وهو ما أظهرته اتفاقية التجارة الحرة المبرمة عام 1995 مع الاتحاد الأوروبي، والتي أدت إلى تنسيق الإطار التنظيمي التركي إلى حد ما مع الإطار الأوروبي.
أكثر من ذلك، ينظر إلى تركيا على أنها تعتبر اقتصادا رئيسيا وقوة إقليمية كبيرة يحسب لها الحساب على أعتاب أوروبا. فهي تتمتع بقاعدة إنتاج صناعية واسعة، ويتوفر فيها مناخ أعمال متطور، وقوى عاملة قادرة ومتعلمة. علاوة على ذلك تعد مصدرا صافيا هاما للسلع الزراعية، فضلا عن أنها تحقق تقدما في مجال الطاقة المتجددة، كما بدأت أخيرا في إنتاج سيارتها الكهربائية الخاصة.
ولهذه الغاية، كتبت The Economist في عام 2010: «تصنع تركيا أشياء مثل الأثاث والسيارات والإسمنت (وهي أكبر مصدر في العالم) والأحذية وأجهزة التلفزيون ومشغلات أجهزة الـ DVD. بمعنى… قد يطلق عليها اسم الصين الأوروبية».
لكن هذه هي الأمنية، أي لقب الصين الأوروبية، التي لم تتحقق، حيث كانت تركيا ذات يوم تحتل المرتبة السادسة عشرة بين أكبر الاقتصادات في العالم وكان من المتوقع أن تصبح في المرتبة الثانية عشرة بحلول عام 2050. أما اليوم، فقد انخفضت في جميع المؤشرات، مقارنة بما كانت عليه قبل عقد من الزمن، من دخل الفرد إلى حجم اقتصادها. وبدلاً من أن تصبح تركيا الصين في أوروبا، بدت في السنوات الأخيرة أكثر فأكثر مثل الأرجنتين في أوروبا.
أما السبب، حسب الخبراء، فيعود إلى سياسات أردوغان الذي عمل على تعزيز سلطته، عبر تفريغ المؤسسات المستقلة، ووضع الرجال المؤيدين له في جميع المراكز البيروقراطية في البلاد، والأهم اعتماده المفرط على الإنفاق الحكومي الهائل للحفاظ على دوران عجلة الاقتصاد. لذلك أدت هذه العوامل مجتمعة، بمرور الوقت، إلى هجرة كبيرة للأدمغة، وفقدان ثقة المستثمرين وحدوث تضخم جامح.