إعداد: أميمة سليم
شهد العالم أزمة خانقة بسبب تداعيات وباء فيروس«كورونا»، الذي تسبب في أزمات اقتصادية واجتماعية عميقة، هناك من فقد عمله ومصدر رزقه الوحيد، وهناك من فقد أقاربه… إذ تسببت هذه الأزمة الصحية في حدوث شرخ نفسي كبير دفع البعض إلى التفكير في الانتحار، بل وهناك أشخاص أقدموا فعلا على هذا الفعل بسبب الاكتئاب واليأس، وتعسر ظروف الحياة. سوف نتطرق في عدد هذا الأسبوع من «دليل الصحة النفسية» إلى الانتحار، أسبابه وكيفية الوقاية من الأفكار الانتحارية.
ما تجب معرفته عن الانتحار
الانتحار هو الفعل الذي يتضمن تسبب الشخص عمدًا في قتل نفسه. يرتكب الانتحار غالبا بسبب اليأس، والذي كثيراً ما يُعزى إلى اضطراب نفسي مثل الاكتئاب أو الهوس الاكتئابي أو الفصام أو إدمان الكحول أو تعاطي المخدرات. وغالبًا ما تلعب عوامل الإجهاد مثل الصعوبات المالية أو موت شخص عزيز أو المشكلات في العلاقات الشخصية دورا في ذلك. وقد أوردت بيانات لمنظمة الصحة العالمية بأن 75% من حالات الانتحار تسجل ما بين متوسطي الدخل وسكان الدول الفقيرة. وتشمل الجهود المبذولة لمنع الانتحار تقييد الوصول إلى الأسلحة النارية، وعلاج الأمراض النفسية وحظر استعمال المخدرات، فضلا عن تحسين التنمية الاقتصادية.
الانتحار هو سبب الموت الطوعي وليس اسم المرض.
الوسائل المستخدمة، بترتيب تنازلي من حيث التكرار في محاولات الانتحار، هي التسمم بالمبيدات والمخدرات، قطع الشرايين، الارتماء من النافذة، الشنق، الأسلحة النارية، والغرق.
يصيب الانتحار حوالي 12000 شخص سنويا. تشير الإحصائيات إلى أن معدل تكرار محاولات الانتحار بين النساء أعلى بكثير من الرجال، ومن ناحية أخرى، فإن الوفيات بالانتحار تؤثر على الرجال أكثر من النساء.
يقال إن الوفيات بسبب الانتحار تدخل فيها عدة عوامل منها السن، والسكن في الأرياف، والمستوى الاجتماعي والاقتصادي المتدني.
منظمة الصحة العالمية تشدد على الوقاية من الانتحار في زمن «كورونا»
شددت منظمة الصحة العالمية على ضرورة إعطاء الأولوية لبرامج الوقاية من الانتحار، بعد مرور أشهر طويلة من تفشي جائحة «كورونا».
وتشير الدراسات إلى أن الأزمة الصحية العالمية أدت إلى تفاقم عوامل الخطر المرتبطة بالسلوكيات الانتحارية، مثل فقدان الوظيفة، والصدمات النفسية أو سوء المعاملة، واضطرابات الصحة العقلية، والعوائق التي تحول دون الحصول على الرعاية الصحية.
مشكلة صحية عامة خطيرة
قال ريناتو أوليفيرا سوزا، رئيس وحدة الصحة العقلية في منظمة الصحة للبلدان الأمريكية، إن «الانتحار يمثل مشكلة صحية عامة طارئة، وينبغي أن تكون الوقاية منه أولوية وطنية».
وأشار إلى الحاجة إلى اتخاذ إجراءات ملموسة من جميع فئات المجتمع لوضع حد لهذه الوفيات، «وأن تضع الحكومات وتستثمر في استراتيجية وطنية شاملة لتحسين الوقاية من الانتحار ورعايته».
على الصعيد العالمي، يمثل الانتحار واحدا من بين كل 100 حالة وفاة، مما يجعله من بين الأسباب الرئيسية للوفاة في جميع أنحاء العالم، ورابع سبب رئيسي للوفاة بين الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عاما، بعد حوادث المرور والسل والعنف بين الأشخاص.
ووفقا لمنظمة الصحة العالمية، يفوق عدد الأشخاص الذين يموتون، سنويا، بسبب الانتحار عدد الأشخاص الذين يموتون بسبب الإيدز أو الملاريا أو سرطان الثدي أو بسبب الحرب وجرائم القتل.
إشارات تحذير
تتضمن بعض إشارات التحذير في ألفاظ أو سلوك من ينوون الانتحار الحديث عن الرغبة في الموت، أو الشعور بالذنب أو الخجل الهائل، أو الشعور بالعبء على الآخرين.
تشمل العلامات الأخرى الشعور بالفراغ أو اليأس أو الوقوع في فخ أو عدم وجود سبب للعيش أو الشعور بالحزن الشديد أو القلق أو الغضب.
ومن بين التغييرات السلوكية التي يمكن أن تكون أيضا علامات تحذيرية، البحث عن طرق للموت، والابتعاد عن الأصدقاء، والتخلي عن أشياء مهمة، وإظهار تقلبات مزاجية حادة، وتناول الطعام أو النوم كثيرا أو قليلا جدا، وتعاطي المخدرات أو الكحول بصورة مكثفة.
يتعين على أي شخص يكتشف إشارات التحذير هذه، سواء في نفسه أو لدى شخص يعرفه، أن يطلب المساعدة من أخصائي الرعاية الصحية في أسرع وقت ممكن.
الأمل من خلال العمل
نشرت منظمة الصحة العالمية مؤخرا إرشادات تدعم الجهود الوطنية للمساعدة في تقليل معدل الانتحار العالمي، بمقدار الثلث بحلول عام 2030، بما يتماشى مع أهداف التنمية المستدامة. تشمل تدابير الوقاية الرئيسية مايلي:
-تقييد الوصول إلى وسائل الانتحار (مثل مبيدات الآفات، والأسلحة النارية، وبعض الأدوية)؛
-التواصل مع وسائل الإعلام لعرض مواد إعلامية مسؤولة بشأن الانتحار؛
-تعزيز مهارات الحياة الاجتماعية والعاطفية لدى المراهقين؛
-التعرف مبكرا على الأفراد الذين يظهرون سلوكيات انتحارية وتقييم حالتهم وإدارتها ومتابعتها.
الاكتئاب ومضادات الاكتئاب وعلاقتها بالانتحار
يشمل السلوكُ الانتحاري: الانتحار المكتمل، ومحاولة الانتحار. وتسمى الأفكار والخطط الرامية إلى الانتحار أفكار الانتحار.
ينجُم الانتحار عادة عن تفاعل عددٍ من العوامل، بما في ذلك الاكتئاب عادة.
لذلك، فإن أي تهديد بالانتحار أو محاولة انتحار يجب أن يؤخذا على مَحمل الجدِّ، وينبغي تقديمُ المساعدة والدعم.
يشتمل السُّلُوكُ الانتحاري على ما يلي:
الانتحار المكتمل: الفعل المتعمد لإيذاء النفس الذي يؤدِّي إلى الموت.
محاولة الانتحار: فعل هدفه إيذاء النفس، ويُقصَد به أن يؤدي إلى الموت، ولكنه لم يؤدي إلى ذلك. قد تؤدي أو لا تؤدي محاولةُ الانتحار إلى الإصابة أو الأذى.
إصابة الذات غير الانتحارية: هي فعل لإيذاء النفس لا يُقصَد به أن يؤدِّي إلى الموت. وتشتمل هذه الأفعالُ على الخدوش على الذراعين، وحرق النفس بالسيجارة، والجرعة الزائدة من الفيتامينات. قد تكون إصابة الذات غير الانتحارية وسيلةً للحد من التوتر، أو تكون نداء للمساعدة من أشخاص لا يزالون يرغبون في العيش. وينبغي عدمُ إهمال هذه الأفعال أو التعامل معها على نحو غير جدِّي.
تأتي المعلوماتُ عن تواتر الانتحار من شهادات الموت وتقارير التحقيق بشكلٍ رئيسي، وربما يُقلل من شأن المعدل الحقيقي. ولكن، فإن السُّلُوك الانتحاري هو مشكلة صحية شائعة جدا. يحدُث السُّلُوك الانتحاري عند المرضى من جميع الأعمار وفي كلا الجنسين، ويعد معدل الانتحار هو الأعلى بين الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 45 و 64 عامًا.
وفي جميع الفئات العمرية، يتجاوز عددُ الرجال الذين ينتحرون النساء بنسبة 4 إلى 1. والأسبابُ غير واضحة، ولكن يمكن أن تشتمل على ما يلي:
عندما يكون لدى الرجال مشاكل، يكونون أقل عرضةً لطلب المساعدة – من الأصدقاء أو ممارسين الرعاية الصحية.
كما أن تعاطي الكحوليات وتعاطي المخدِّرات، والتي يبدو أنها تسهم في السُّلُوك الانتحاري، أكثر شُيُوعًا بين الرجال.
والرجالُ أكثر عدوانية، ويستخدمون وسائلَ أكثر فتكًا عندما يحاولون الانتحار.
وفي كلِّ عام، يحاول نَحو مليون شخص الانتحار. ويكون عددُ المحاولات أعلى بنَحو 15 إلى 20 مرة من عدد حالات الانتحار المكتملة. ويقوم كثيرٌ من الأشخاص بمحاولاتٍ متكرِّرة. ولكنّ 5 إلى 10٪ فقط من الناس الذين يحاولون الانتحار يَموتون في نهاية المطاف به. وتعدُّ محاولاتُ الانتحار شائعة بشكل خاص بين المراهقات، حيث تحاول الفتيات اللواتي تتراوح أعمارهن بين 15 و 19 سنة الانتحار 100 مرة أكثر من الفتيان في الفئة العمرية نفسها. وفي جميع الفئات العمرية، تحاول النساء الانتحارَ مرتين أو ثلاثة أضعاف الرجال، ولكن الرجالَ يكونون أكثرَ عرضة للوفاة في محاولاتهم بنسبة أربع مرات. كما يحاول المسنون الانتحار 4 مرات قبل تحقيق الانتحار المكتمل.
أسباب الانتحار
إن حوالي واحد من كل ستة أشخاص يقتلون أنفسهم يترك ملاحظة انتحارية، والتي توفِّر في بعض الأحيان أدلةً على السبب.
وتنتج السُّلُوكياتُ الانتحارية عن تفاعل عدة عوامل عادة، وأكثرها شُيُوعًا هو
-الاكتئاب
يسهم الاكتئاب في أكثر من 50٪ من محاولات الانتحار. قد تؤدِّي المشاكلُ الزوجية، أو الاعتقال أو المشاكل القانونية، أو حالات الحب غير السعيدة أو المنتهية، أو النزاعات مع الوالدين (بين المراهقين)، أو فقدان أحد أفراد الأسرة مؤخرًا (وخاصة بين كبار السن) إلى الاكتئاب. وفي كثير من الأحيان، يكون عامل واحد، مثل انفكاك علاقة مهمة، هي القشة الأخيرة في سلسلة من الظروف المزعجة. ولكن، يمكن أن يحدث الاكتئاب «فجأة»، خاصة إذا كان هناك تاريخٌ عائلي لاضطراب في المزاج أو للانتحار. ويكون خطرُ الانتحار أعلى إذا كان لدى الأشخاص، الذين يعانون من الاكتئاب، قلقٌ كبير أيضا.
قد يصاب الأشخاصُ الذين يعانون من اضطرابات طبية عامة معينة بالاكتئاب، ويحاولون الانتحارَ أو ينتحرون بالفِعل. وتؤثِّر معظمُ الاضطرابات المرتبطة بزيادة معدلات الانتحار في الجهاز العصبي والدماغ، إمَا بشكل مباشر (مثل الإيدز، والتصلُّب المتعدد، أو صرع الفصِّ الصدغي) أو تنطوي على المُعالجَات التي يمكن أن تسبِّب الاكتئاب (مثل بعض الأدوية المستخدَمة لعلاج ارتفاع ضغط الدم).
يكُون الأشخاص الذين تعرضوا إلى تجارب صادِمَة في الطفولة، بما في ذلك إساءة المعاملة، أكثر ميلاً لمُحاوَلة الانتحار، وربما يعود هذا إلى أنهم يُواجِهُون زيادةً في خطر الإصابة بالاكتئاب.
ويمكن أن يتعزز الاكتئاب عن طريق استخدام الكحول، والذي بدوره، يجعل السُّلُوكَ الانتحاري أكثر احتمالا. كما يقلِّل الكحول من ضبط النفس أيضًا، فحوالي 30٪ من المَرضَى الذين يحاولون الانتحارَ يشربون الكحول قبلَ المحاولة. وبما أن إدمان الكحول، وخاصة الشرب بكثرة، غالبًا ما يسبِّب مشاعر عميقة من الندم خلال فترات الابتعاد عنه، لذلك، يكون المدمنون على الكحول عرضةً للانتحار حتى في فترات الاتِّزان.
كما أن اضطراباتِ الصحة النفسية الأخرى، إلى جانب الاكتئاب، تجعل المَرضَى عرضة لخطر الانتحار أيضا، فالأشخاصُ المصابون بانفصام الشخصية أو اضطرابات ذهانية أخرى قد يكون لديهم أوهام (معتقدات كاذبة ثابتة) بأنهم يجدون من المستحيل التكيٌّف معها، أو أنهم قد يسمعون أصواتًا (الهلوسة السمعية) تقودهم إلى قتل أنفسهم. وكذلك فإن المصابين باضطراب الشخصية الحدِّي أو اضطراب الشخصية المعادي للمجتمع، وخاصة أولئك الذين لديهم تاريخ من السُّلُوك العنيف، هم أكثر عرضة للانتحار أيضًا.
مضادات الاكتئاب وخطرُ الانتِحار
يعدّ خطرُ محاولات الانتحار هو الأكبر في الشهر قبل بدء العلاج المضاد للاكتئاب، وخطر الموت عن طريق الانتحار لا يختفي بعد بدء إعطاء مضادات الاكتئاب. ولكن مضادات الاكتئاب تزيد بشكلٍ طفيف من تواتر الأفكار والسُّلُوكيات الانتحارية (ولكن ليس الانتحار المكتمل) لدى الأطفال والمراهقين والشباب. لذلك، ينبغي تحذير آباء وأمهات الأطفال والمراهقين، كما ينبغي مراقبة الأطفال والمراهقين بعناية بالنسبة للتأثيرات الجانبية، مثل زيادة القلق والعصبية والأرق والتململ والغضب، أو التحول إلى الهَوَس الخَفيف (عندما يشعر الأشخاص بطاقةٍ كاملة وبالبهجة، ولكن غالبًا ما يغضبون ويَتهيجون بسهولة)، وخاصة في الأسابيع القليلة الأولى بعد بدء تناول الدواء.
وبسبب التحذيرات الصحية العامة حول العلاقة المحتملة بين تناول مضادات الاكتئاب وزيادة خطر الانتحار، بدأ الأطباءُ بالتقليل من مُعدل وصف هذه الأدوية بنسبة 30٪ تقريبًا للأطفال والشباب. ولكن، في الوقت نفسه، ارتفعت معدلات الانتحار بين الشباب بشكلٍ مؤقت بنسبة 14٪. وهكذا، فمن الممكن أن تؤدي هذه التحذيرات، عن طريق تثبيط المُعالَجَة بالأدوية للاكتئاب، إلى مزيد من الوَفَيات، وليس بنسبة أقل، عن طريق الانتحار.
عندما يتم وصف مضادات الاكتئاب للمرضى، يتخذ الأطباء بعض الاحتياطات للحد من خطر السلُوك الانتحاري:
-إعطاء المَرضَى مضادات الاكتئاب بمقادير لا تسبِّب الموت
-جدولة زيارات أكثر تكرارًا عندَ بدء العلاج
-تحذير واضح للمرضى وأفراد أسرهم والأشخاص الآخرين المهمين من أن يكونوا في حالة استعداد لتفاقم الأَعراض أو التفكير الانتحاري
-توجيه المرضَى وأفراد أسرهم والأشخاص الآخرين المهمين للاتصال فورًا بالطبيب الذي وصف مضاد الاكتئاب أو للحصول على الرعاية في أي مكان آخر إذا تدهورت الأَعراض أو عندما تحدث الأفكارُ الانتحارية.