بقلم: خالص جلبي
في نقاش حامي الوطيس قال لي أحد المتشددين: لقد مارس الرسول صلى الله عليه وسلم الاغتيال السياسي، فماذا تقول؟ قلت له: الواقعة صحيحة وموجودة في صحيح البخاري، فقد تم اغتيال كعب بن الأشرف، ولكن من يدخل قاعة العمليات ويرى الجراح وبيده المشرط، وهو يشق بطن المريض، قد يقع على الأرض مغشيا عليه. وهذا يعني أن أي واقعة يجب أن تفهم ضمن شروطها، وإلا كان القتال في الإسلام، مثل ممارسة الجراحة في سوق الخضر. وفي العصر الفرعوني كانت الجمجمة تفتح بإزميل ومطرقة. كما أن القراصنة كانوا يقطعون ساق المصاب بالسيف، بعد جرعة كبيرة من الخمرة وضربة على الرأس، ثم يغمس الطرف بالزيت المغلي. وفي تشريعات حمورابي كان الطبيب الذي يخطئ بحق المريض يقتل. واليوم تقطع الساق بدون ألم وتحت التخدير العام، ويفتح الجمجمة روبوت بدون جراح. ونشأت نظم قانونية لحماية المريض والطبيب من المضاعفات. وفي الأول من يوليوز 2002م نشأت محكمة عالمية، وقعت عليها أكثر من ستين دولة في العالم، سيتم بموجبها القبض على أي مجرم، ولو كان رئيس دولة، أو رئيس فرع مخابرات يستجوب الناس بتعذيبهم. وكما أن الجراحة تجرى ضمن أشد الشروط التعقيمية صرامة، كذلك يجب معالجة مشكلة القتال في الإسلام ضمن شروط فكرية معقمة لأبعد الحدود، وإلا تحولت الجراحة إلى قتل والجهاد إلى إرهاب. ومعنى هذا الكلام ثلاثة أشياء: فهم ما هو الجهاد؟ وبكلمة أدق «القتال» في الإسلام وشروطه، ومن يمارسه وضد من؟ والأمر الثاني طبيعة الرحلة البشرية. والثالث: كيف نفهم تصرفات الرسول (ص) مثل إعدام مجموعة من اليهود، بعد معركة قريظة، بتهمة الخيانة العظمى؟ فأما «القتال» في الإسلام فهو غير «الجهاد»، والجهاد هو استنفار الجهد لفهم وتمثل الإسلام. أما القتال فهو لرفع الظلم وليس لنشر الإسلام. وقال الرسول (ص) عن حلف الفضول للدفاع عن المظلومين: لو دعيت له في الإسلام لأجبت. والجهاد في الإسلام هو دعوة لإقامة حلف عالمي، لرفع الظلم عن الإنسان أينما كان ومهما دان، ولو بالتعاون مع الكافرين (العادلين) ضد المسلمين (الظالمين). والقتال في سبيل الله ليس «آلة» بيد جماعة أو تنظيم أو حزب يرتب لاغتيال رؤساء الجمهوريات، أو تدبير انقلابات عسكرية، كما فعل الترابي يوما في السودان، بدعوى أننا إذا لم نتغذ بهم تعشوا بنا. وكان حظ الترابي عظيما أنه حافظ على رأسه، بعد أن انقلب عليه من انقلب معه على آخرين، حتى وافاه الأجل، فندم وكتب عن الحريات بعد أن لن يبق في السودان إلا «الشفارة». وطريقة الأنبياء في صناعة السياسة والحكم والمجتمع تتم من خلال تغيير المجتمع سلميا، ولقد جاءك من نبأ المرسلين. وإذا فهمنا هذه النقطة اقتربنا من حل المشكلة، وهي أن الإنسان لا يقتل من أجل رأيه، بل من أجل ممارسته القتل. وعندما تم اغتيال كعب بن الأشرف، فيجب فهم ذلك أنه جاء ضمن حرب مستعرة بين طرفين، فيها قتل وقتال. مثل حرب الاستخبارات بين روسيا وأمريكا، يسقط فيها ضحايا بين حين وآخر. وإسرائيل قامت باغتيال علماء ذرة عراقيين، ولم يكونوا بخطورة رجال فروع أمنية يخططون للقضاء عليها. مع هذا فإن الإشكالية لا تحل كلية بين التصور لعمل استخبارات وعمل نبي. وهذا ينقلنا إلى الشق الثاني من البحث، وهو أن الرسول (ص) في ممارسة معينة كان يمارس نشاطا إنسانيا مناسبا لظروف تخصه. وما يصلح في وقت، لا يصلح في وقت آخر ومكان مختلف وأقوام جدد. ولو بعث في عصرنا لتصرف أمام الواقعة نفسها على نحو مختلف. وهذه النقطة لا يفهمها المتشددون، فيخطئون ثلاث مرات: (1) بمحاولة اغتيال رؤساء ومسؤولين، وضرب الأبراج في نيويورك تحت هذا المسوغ. (2) والغفلة عن «علل» النصوص، التي تجعلنا نطبق في مكان ما نمتنع عن تطبيقه في مكان آخر. (3) وعدم الانتباه إلى تطور التشريع. واليوم تتراجع الجراحة كلية، ولم نعد نشق بطن المريض، بل نعالجه بثلاثة ثقوب بسيطة. كما أن فهم علل الأمراض، قد يجعلنا في المستقبل نستغني عن الجراحة. وهذا ليس انتقاصا من قدر الجراحين، أيام الفرعون بيبي الثاني، أو زمن صلاح الدين الأيوبي، الذين عالجوا السلطان المصاب باليرقان بالفصادة، فقضوا عليه. كما أن الصحابة في جرح الصحابي سعد بن معاذ في الشريان الأبطي، عالجوه بحرق حصيرة، ثم وضعوها فوق الجرح، وكان هذا أفضل شيء يومها حتى انفجرت عليه فمات بها. واليوم تقوم الجراحة بإعادة تصنيع الشريان بعملية بسيطة، وكانت عملياتي اليومية. وإذا فهمنا هذه التطبيقات الطبية، فإنها قد تنفعنا في فهم علاجات اجتماعية، مثل حادثة الخندق، واغتيال كعب بن الأشرف، وأنها كانت وقائع عادية يومها. وتنقلب إلى ممارسة مختلفة، لو جاءت في زماننا الحالي. وهو فهم قد ينفع فيمن يسمح لعقله بالحركة، ولكنه لا يفلح أبدا في إدخال القناعة إلى عقل إنسان متشدد، يقرأ النصوص بعيون الموتى. فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين.
نافذة:
كما أن الجراحة تجرى ضمن أشد الشروط التعقيمية صرامة كذلك يجب معالجة مشكلة القتال في الإسلام ضمن شروط فكرية معقمة لأبعد الحدود وإلا تحولت الجراحة إلى قتل والجهاد إلى إرهاب