خالص جلبي
بتاريخ 14 أكتوبر 2009م تم اعتقال المحامي هيثم المالح في دولة الجملوكيات. وجاء في حيثيات اعتقاله، عقب حواره الهاتفي مع مذيع برنامج «بانوراما» على فضائية «بردى»، عن القبضة الأمنية التي تشتد من شهر إلى آخر، ومن سنة إلى أخرى في سوريا. قال الرجل إن أحوالنا في هذا العام هي أسوأ من العام الماضي، فالاعتقالات تزداد، وكان الرجل يتنبأ بكارثة 2011م، لتستمر 12 عاما وتأخذ في لظاها أرواح مليون من الأنام.
وأشار المحامي إلى نهب المال العام والفساد المستشري، واعتقال زميله الأستاذ مهند الحسني، لمجرد رصده للمحاكمات التي كانت تصدر في محاكمات علنية، فتضايق منه الأمن واعتقله! وأن إعلان دمشق مثلا ينادي بالتغيير السلمي الديمقراطي المتدرج، وأن القوانين لدينا في الكتب فقط، وأن الكتب على الرف منذ زمن بعيد، وأن هناك تدميرا مدبرا وممنهجا لدمشق. كما قال إنه لا يعرف من بيده الأمر في هذا البلد من أجل حلحلة مشاكل الناس، ومن بيده مفتاح المستقبل! وقال إنه ليس من حق الدولة أن تمنع جريان نهر بردى؛ فهذه جريمة بحق دمشق… ولكن مَن يحاسب مَن في هذا البلد؟ واستغاث المالح قائلا: إن دمشق تسير نحو التصحر وما من مجيب!
وفي إطار الحديث نفسه، عن أزمة العشوائيات، قال المالح إن سوريا دولة غنية، ولكنها ابتُليت بنهب المال العام وبالهَدْر والتبذير الذي يجري من قِبَل السلطة. وعن حال القانون في سوريا، قال المالح إنه لا يطبق إلا على الضعيف في هذا البلد، بينما القوي لديه عدة وسائط وطرق لعمل أي شيء!
وبقي المالح متفائلا في حديثه قائلا إن المستقبل مرهون بيد الشعب، وإن على الناس أن يدافعوا عن مصالحهم، وإنه على كل مواطن أن يعي حقوقه ويدافع عنها. وفي أواخر الحوار أضاف المالح أنه يجب أن لا نتنكر عن الحق وإلا تدمر البلد.
وحاليا تحرك الإنترنت في كل العالم لنصرة هذا الرجل الشيخ، مذكرا بسقراط الذي سممته أثينا، أما في دمشق فلا حاجة إلى سم الشوكران، لوفرة أفاعي الصل والأناكوندا سما والتقاما. وهو محظوظ حاليا، بسبب هشاشة النظام البعثي المحتظر المحتضر، فهو في وقت شباب النظام المتوحش لبث في السجن بضع سنين، ويروي عن سجنه أنه لم يسأل كلمة في دخوله ولا كلمة في خروجه، بعد ثماني سنوات عجافا ذهبت هباء من حياته.
وأنا شخصيا لي تجارب في الاعتقالات تجعلني أفهم الأوضاع تماما؛ قبل أن أغادر ديار البعث إلى يوم البعث؛ فقبل أن أغادر جحور الأفاعي تم لدغي بالاعتقالات مثنى وثلاث ورباع. وكان الاعتقال الرابع لي أنا وداعية السلام جودت سعيد، في طريقنا لزيارة صديقنا الذكي المثقف خالد حسون في السلمية، وصدف أن تحركت مظاهرة اعتراض في حمص؛ فتم مسح المنطقة على قطر ألف كلم، من حلكو وعامودة إلى سمنين وبير عجم، ومن الكلّة و(تركمان بارح) حتى نصيب ونصيبين. تم اعتقال الآلاف على شكل (احترازي) وكان نصيبنا الفلق وتحطيم الأسنان بـ«البوكس» الحديدي، حتى صلحت نابي المحطم في أرض الفرنسيس والجرمان. وكان الشباب (الطيبة) يضربوننا بمتعة بالغة، وما زال في خيالي وجه جودت المحمر من صفعة هائلة! (رحمه ربي فقد سبقنا إلى دار القرار في أرض العثمانيين).
وسبق ذلك ثلاثة اعتقالات، الأول حين زرب 30 شخصا في غرفة تتسع بالكاد لسبعة أنفار، وكان معنا شخص كبير في السن (شارف بالمغربية) مصاب بالبروستات، فبال على الأرض تحت أقدامنا، فنمنا في مستنقع. كان ذلك في قبو المخابرات العسكرية في القامشلي، وأنا أتهيأ لاجتياز أهم امتحان في حياة الطالب البكالوريا؛ فهي من تحدد مصير ومسار الطالب إلى أين؟ بعدها دخلت الطب ومارسته، حتى جاء وقت التقاعد؛ فقد آن لي أن أترجل وأعرف النوم بعد استنفار أربعين عاما؟ فلا أمان للمفكر إلا في شاطئ المهنة كما كان معي وأنا الطبيب الجراح، والويل للمفكر إن عول في رزقه على مهنة الكتابة وحرفة القلم والارتزاق منها، فمصيره في بطن حوت الدولة، أو سمك قرش أمير أو رفيق، أو أفعى أناكوندا من مؤسسة متهالكة، ومسؤول فاسد متنفذ.
ويومها أفرج عني قبل الامتحانات بـ43 يوما، فكنت أمر كل صباح بجنب قلعتهم وهم يلوحون لي بالقبضات العسكرية والبساطر! وفي مثل هذا الجو من الضغط النفسي، وتحت شعور المطاردة قدمت الامتحان في الحسكة (وكأنها حسكة في الحلق)، وكنت الأول في المنطقة في نتيجة الامتحانات؛ فتحركت إلى العاصمة الجميلة دمشق أدرس فيها الطب، ولم أعلم أن علي ثلاث زيارات منحوسات أخرى إلى فروعهم، التي تعطيك اليقين بوجود جهنم، وبذلك فقد أحيت لنا المافيا إيماننا بالقيامة وسقر لا ريب فيها؛ فعلينا أن نشكرها أن جعلتنا نوقن بوجود آخرة وجهنم تلظى.
وحين أراجع سجلاتي مع نظام البعث العبثي والاعتقالات، أتذكر الأولى كانت حين تم اقتحام المسجد الأموي بالمصفحات والطبنجات والرصاص، وتم زرب خمسة آلاف شخص في المسكية، عند مدخل المسجد في مساحة تتسع لمائة نفر! وساعدت طفلا على عدم الاختناق، حين رفعته فوق رأسي! وتعرفت يومها على معتقل الرعب الأول (سجن المزة العسكري)، وقضيت فيه ثلاثة أضعاف فترة القامشلي 39 يوما، ويومها فاجأنا (أمين الحافظ)، أبو عبدو الملقب بـ(الجحش)، فنظر في الزاوية، وقال: من هؤلاء؟ قالوا له: طلبة جامعة. قال يتحملوا لا تقصروا فيهم.. فهجم علينا جلاد، أول شيء فعله نتف لحية طالب شريعة فلسطيني، ساقه حظه العاثر إلى هذه المزبلة. أما الاعتقال الثالث فكان علي رؤية جلاد من كلاب جهنم هو الطحطوح. وكنت شاهدا في كراكون الشيخ حسن (كراكون كلمة تركية وتعني نظارة التوقيف) على حفلات تعذيبه الليلية، فالرجل (السيكوبات) أبو فواز، كان مولعا مثل دراكولا بالقدوم نصف سكران عند الفجر، فلا تطلع الشمس إلا على ملسوع أو مفجوج أو مفدوغ أو مهشم العظام مكسر الأسنان، أو واحد مثلي مشبوحا إلى حائط يحمل على كتفيه دولاب سيارة في تعذيب مستمر لأيام.. وسمعت عنه أنه هذه الأيام قد أصبح تاجر عقارات مرموقا من أموال الضحايا. فقد خدم وتعب ويأكل رزقه من عرق الجبين والجلد.. جلد أبشار العباد المقرودين.
نافذة:
إن المستقبل مرهون بيد الشعب وإن على الناس أن يدافعوا عن مصالحهم وإنه على كل مواطن أن يعي حقوقه ويدافع عنها