قبل أن تعلن كييف مسؤوليتها عن الهجوم، كانت موسكو قد أعلنت يوم رأس السنة أنها فقدت عشرات الجنود الروس في مدينة ماكيفكا، الواقعة في المناطق التي تحت سيطرتها في دونيتسك شرق أوكرانيا. بدا أن روسيا أرادت حصرية السبق، وفق نسخة رسمية صادرة عن وزارة الدفاع، قبل أن تتأخر كييف في الإعلان عن مسؤوليتها عن الحدث.
في الرواية الروسية أن الهجوم الأوكراني الذي وقع ليلة رأس السنة استخدم صواريخ هيمارس الأمريكية الأطلسية. كان واضحا أن موسكو ارتأت هذه المرة، لحسابات داخلية وربما استراتيجية لاحقة، التحدث عن هذه الصواريخ بالذات والإقرار بما تحدثه من فتك واتهامها بما تنزله بروسيا من أضرار، وخصوصا بشرية.
اعترفت موسكو بمقتل 89 جنديا، فيما تحدثت الأرقام الأوكرانية عن مقتل 400 وإصابة 300. أطلقت روسيا روايتها وخرجت مصادرها الرسمية كما صحافيوها ومحللوها إلى تسليط الضوء على هوية ونوعية الصواريخ القاتلة، كدليل جديد على استهداف الغرب والحلف الأطلسي لروسيا والجنود الروس. وراحت منابر موسكو تكرر لازمة مفادها أن الحرب ليست مع أوكرانيا، بل مع الناتو والغرب بأجمعه. وراح نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، ديمتري مدفيديف، يتوعد بإرسال حاملة صواريخ تسيركون فرط صوتية إلى قرب شواطئ الناتو.
والحال أن خطاب الغرب بات أكثر خشونة وأشد حزما في التعاطي مع حرب أوكرانيا. وبينما بقيت واشنطن وحليفاتها في أوروبا متمسكة، خلال الأشهر التي تلت الهجوم الروسي، باستراتيجية تحرم أوكرانيا من أي أسلحة هجومية يمكن أن تطول الأراضي الروسية، فإن «تَفَهُّمَ» أمين عام الناتو، ينس ستولتنبرغ، لإمكانية أن تشن كييف هجمات داخل روسيا، يكشف تحولا يستحق التأمل والمراقبة. وكانت مسيّرات أوكرانية قد هاجمت، الشهر الماضي، أهدافا داخل روسيا، منها قاعدة إنغلز في منطقة ساراتوف، على بعد حوالي 600 كيلومتر من الحدود الأوكرانية.
وإذا ما أرادت موسكو التسويق لدى الرأي العام الداخلي والدولي لفرضية خطط الحلف الأطلسي لـ«تدمير الحضارة الروسية»، وفق تعبير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فإن ما يصدر هذه الأيام عن العواصم الغربية يغذي هذه المزاعم ويضخ ماء لطواحينها.
غير أن الخطاب الروسي بنسخته المنقحة بعد هجوم ماكيفكا لا يحمل جديدا أو تحولا فارقا. أقامت موسكو حججها لتبرير بدء «العملية العسكرية الخاصة» ضد أوكرانيا، في 24 فبراير 2022، على حيثيات الخطر الأطلسي المقبل من أوكرانيا على الحدود الشرقية لروسيا. بالمقابل أقام الغرب مقاربته للحرب على أساس نفي أن يكون لـ«الأطلسي»، وهو حلف دفاعي، أي خطط هجومية تستهدف روسيا وأمنها ووحدتها.
يشمل التطور العسكرتاري أيضا دخول المسيرات إيرانية الصنع بشكل مكثف في ميدان الحرب لصالح روسيا. والأمر بالنسبة إلى كييف ليس تفصيلا تقنيا، بل إن الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي يعتبره تحولا في طبيعة المعركة باتجاه تدمير منهجي للبنى التحتية لبلاده. وإذا ما تضاف التقارير عن تدخل لوجيستي وحتى عسكري مباشر مزعوم من قبل كوريا الشمالية ومحتمل من قبل بيلاروسيا، فإنه، وبغض النظر عن دقة المعلومات ولوازم البروباغندا المتبادلة، فإن احتمالات التفاوض والسلم والتسوية تبدو بعيدة.
في هذا السياق وجبت قراءة قرار الولايات المتحدة بتنظيم زيارة للرئيس الأوكراني في 21 دجنبر للقاء نظيره جو بايدن، في البيت الأبيض. صحيح أن لزيلينسكي مصلحة في قمة تجمعه مع نظيره الأمريكي ولقاء نُخب واشنطن، وخصوصا تحت قبة الكابيتول مخاطبا الكونغرس، لكن الأمر لم يكن ليحصل، لولا إرادة أمريكية بتظهير تشدد وعزم من داخل الولايات المتحدة، بعد أسابيع على الانتخابات النصفية، وإعلان رفع سقوف الدعم العسكري واللوجيستي والمالي لأوكرانيا.
يعلن البيت الأبيض، في 4 يناير 2023، أن واشنطن «لا تأسف البتة» حيال مقتل عشرات الجنود الروس في الهجوم الأوكراني على ماكيفكا. لسان حال الإدارة الأمريكية يبلغ القيادة في روسيا أن أمريكا ذاهبة إلى حدود متقدمة، وربما قصوى في دعم أوكرانيا ودحر روسيا داخلها. وفي اليوم نفسه أيضا، يأتي إعلان من الإليزي في باريس عن عزم فرنسا تزويد أوكرانيا بمركبة مدرعة خفيفة.
واللافت أن هذا القرار صادر عن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الذي حمل دعوته للتسوية إلى واشنطن، وانتزع إثر لقائه نظيره الأمريكي في الأول من دجنبر إعلان بايدن الاستعداد للجلوس مع بوتين. انقلب الموقف الفرنسي، بعد أسبوع على زيارة وزير الدفاع الفرنسي كييف في 28 دجنبر، وإعلانه عن توقع مخابرات الناتو لهجوم روسي كبير في مارس المقبل. ويتزامن التحول الفرنسي مع إعلان برلين ولندن وواشنطن عن الدفع بتدفقات تسليحية مدرعة وصاروخية من أنماط جديدة نحو أوكرانيا.
وسط هذه التفاصيل تتراجع الدعوات إلى التفاوض وتدفن واشنطن بلمحة نظر توقعات الجنرال مارك ميللي، رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الأمريكي، الذي تحدث في 16 نونبر عن «نافذة تسوية بعد الشتاء». لكن أمر مزيد من العسكرة المتبادلة قد يكون بالمقابل ضروريا، لتحقيق نبوءة الرجل.
محمد قواص