شوف تشوف

الرأيالرئيسية

الاستشهاد والشهادة والشهيد

ليست هناك كلمة تهز الوجدان مثل الشهيد، ولا توجد كلمة أسيء استخدامها مثل كلمة الشهيد. وفي القرآن جاءت مفردات هذه الكلمة 82 مرة، ولكنها لم تكن مرة واحدة في ما يريده الناس. وما زلت أتذكر نفسي في الحقبة الناصرية، حينما خرجنا نهتف بحياة «الشهيد» «باتريس لومومبا»، وكان الناس يتهامسون من يكون هذا الرجل؟ ثم تعرفت عليه في قناة «ديسكفري»، فكان ثوريا نظيفا وسيما، بهي الطلعة، مثقفا، فاغتالته المخابرات البلجيكية على يد أولاد عمومته وقرابته.

وفي يوم مررت على قبر المجرم عبد الكريم الجندي، وكان قد شغل منصب رئيس المخابرات العامة في سوريا، أيام الطاغية الأسد الأب، الذي قتله، أو انتحر، فقرأت فوق قبره «ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا، بل أحياء عند ربهم يرزقون». وكان المذكور يحب ضرب كرام الناس بنعله على وجوههم «الشاروخ»، منهم والد صهري عبد الرحمن المالكي، صاحب كتاب «السياسة الاقتصادية المثلى». 

وفي 22 يوليوز من عام 2003م، انتهت حياة قصي وعدي قتلا، فذاقا من الكأس نفسها دهاقا، ولكن الناس اجتمعوا في الأردن لتلقي العزاء على سيدي شباب أهل الجنة السبطين عدي وقصي. ولا يستبعد أن تمتلئ كتب التاريخ بقصة «شهادة» البطلين، وهما يقارعان «العلوج» الأمريكيين، كما اعتدنا على الكذب في كتب التاريخ التي تدرس لطلبة المدارس.

وعندما يتصارع فريقان فيقدمان «قرابين» بشرية، يعتبر القتيل في عين أهله «شهيدا»، وفي أعين خصومه «مجرما». والفرق بين «الجريمة» و«الجهاد» شعرة، كما كان الفرق بين «الزنا» و«الاغتصاب» و«الزواج» أقل من شعرة، فكلها ممارسة لعمل جنسي، ولكن الأول يقوم على «السرية» والثاني على «الإكراه» والثالث على «الإشهار». وعندما جاهد «الخوارج» لم يكن موتهم «شهادة»، بل جريمة. وإذا حاول الجراح فتح بطن المريض في سوق الخضر سمي قصابا، ولو كان سيد الجراحين. وابن لادن اعتبر أن تفجير أبراج نيويورك سنام الجهاد وقمة الشهادة، في الوقت الذي اعتبرت أمريكا أنه جريمة نكراء وأن الانتحاريين مجرمون. وكما يقول «نعوم تشومسكي»، الناقد الأمريكي، إن قرصانا ألقي القبض عليه في زمن الإسكندر، فبدأ في توبيخه كيف يزعج البحر؟ قال القرصان: أنا أنهب بسفينة صغيرة فأُسَمى قرصانا، أما أنت فتنهب شعوبا بأساطيل فتسمى إمبراطورا!

ويذكر القرآن كلمة «الشهادة» ومرادفاتها 82 مرة، الشهيد 36 مرة والشهداء 20 مرة والشهادة 26 مرة، ولكنه لم يذكرها مرة واحدة بصدد القتل والموت، بل بمعنى مختلف هو الحضور الواعي، أو الإقرار والاعتراف (قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا)، أو الجمع بين الأمرين، وبهذا تكون «الشهادة» ليس ما يعنيها الناس من الموت في سبيل الله حصرا، بل على نحو أدق التمثيل المميز (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا). ومنه جاء كلمة «الشاهد» في المحكمة، لأنه إنسان عاين الواقعة بدقة وألقى السمع وهو شهيد؛ فهو يدلي «بشهادته»، أي يفيد بما حدث صدقا وعدلا. و«الشهادة» بذلك أي الدخول في الإسلام والنطق بالشهادتين، هي الاعتراف والإقرار بصدق ووعي (أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله). وهذا الكلام يفيدنا في أن نرجع فنحرر المعاني كما يقول «ابن خلدون»، ثم نكسي المعاني ثوب الألفاظ. ونحن في العالم العربي مغرمون بالألفاظ، فيخسر الواقع حقيقة ويكسب القاموس لفظا ميتا، فنسمي الشهيد من يقتل في سبيل قضية وبدون قضية. وتحت هذا المفهوم قد يدخل من يموت صادقا في سبيل قضية إنسانية كبرى. كما قد يموت الكثير من أجل عفونات من الصراع القومي والعرقي والطبقي والفئوي. وهنا يجب التفريق بين «الموت» من أجل فكرة و«صدق» تلك الفكرة. فليس كل من يموت من أجل فكرة يعني «صحة الفكرة». وكثير من الشيوعيين والقوميين والملحدين ماتوا من أجل أفكارهم، فلا يعني هذا أن الشيوعية كبد الحقيقة والبعثية سدرة المنتهى. وأمام هذه الحقيقة كان الفيلسوف البريطاني «برتراند راسل» إذا سئل: هل عندك استعداد أن تموت من أجل أفكارك؟ كان يجيب: لا .. لأنني قد أكون مخطئا! وينقل عن بولس في أعمال الرسل أن البذرة حتى تتحول إلى شجرة يجب أن تدفن. وهي تفسر طرفا من الآية أن من يقتل في سبيل الله حي عند الله بطريقة وأخرى. وكسبت أفكار سيد قطب طابع القدسية، بعد شنقه، فخدمه عبد الناصر أكثر مما آذاه، فنشر أفكاره من حيث أراد القضاء عليها، وليس هناك من كتاب تفسير مثل «الظلال» طباعة ونشرا. وسيد قطب يقول إن «كلماتنا تبقى عرائس من الشمع، حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الحياة»، فهذا قانون وجودي. وكل كتاب ممنوع ينتشر أكثر، وكل محظور مرغوب. وكل أشجار الجنة لم تكن كافية لآدم، فذهب إلى الشجرة الوحيدة المحرمة فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما. وترك الملك إدوارد الثامن كل الملك والمال من أجل عيني امرأة، وسقط سور الصين العظيم إكراما لمحظية.

خالص جلبي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى