شوف تشوف

الرئيسيةملف التاريخ

 الاتفاقيات المنسية بين المغرب وبريطانيا

تجارة السلاح واتفاقيات لغزو دول أخرى قبل خمسة قرون

يونس جنوحي
«أخذني من يدي وعبر بي قاعة طويلة إلى مكان به نافورة جميلة حيث جلس على مقعد خاص به وطلب مني الجلوس على مقعد آخر بجواره واستدعى عددا من الموسيقيين. حينئذ تقدمت له بعود ثمين فقبله شاكرا. وسألني بعد ذلك عن الموسيقيين الذين يستخدمونه فقلتُ إن إحضارهم يحتاج إلى عناء كبير وأشرت إليه بأنه ما أن أعود حتى يجيئوا على أول سفينة وقد أبدى استعداده بتقديم ما يحتاجون إليه من رعاية ومأكل. وكذا بأن يتيح لهم الحياة وفق نظامهم ورغباتهم. وإني أراه إنسانا يعيش على مخافة الله وعلى دراية بالكتاب المقدس سواء العهد القديم أو الجديد وهو يحمل أشد مشاعر المودة لأمتنا بأكثر مما يحمل لغيرها من الأمم».
هذا مقتطف قصير من رسالة التاجر البريطاني «لادموند هوجان» الذي زار المغرب في 1 يونيو 1577، حيث وصل بحرا إلى آسفي، ومنها تم استقباله ومرافقته إلى مراكش حيث التقى بالسلطان السعدي المغربي لكي يقدم له مقترحات الملكة إليزابيث الأولى عن مستقبل العلاقات بين البلدين.
+++++++++++++++++++++++++++

عندما أرادت مراكش ولندن تقسيم إسبانيا بينهما واستعمار الهند

خلال فترة حكم الدولة السعدية، ربط المغرب مع بريطانيا علاقات وطيدة، إلى درجة أن المحاظفين المغاربة كانوا يلقبون السلطان عبد المالك السعدي بأنه «ملك النصارى»، أي أنه كان ملكا صديقا للنصارى، وكانوا يقصدون البريطانيين. أما الإسبان والبرتغاليون فكانوا أعداء لكل المغاربة، وجرت حروب طاحنة ضدهم لطردهم من السواحل المغربية.
من بين الأمور التي وثقها الأرشيف البريطاني الرسمي وجود اتصالات بين الملكة إليزابيث الأولى والملك الذهبي، بموجبها اتفق البلدان على التعاون لدحر إسبانيا، لكن الاتفاق لم يعمر طويلا، إذ بمجرد علم البرتغال وإسبانيا أن بريطانيا تزود المغرب بالذخيرة الضرورية لتعبئة المدافع المغربية والمدافع التي حازها المغرب أثناء انتصاراته ضد الإسبان، حتى لجأ الإسبان إلى الكنيسة للضغط على ملكة بريطانيا لتوقف تزويد المغرب بالذخيرة المتمثلة أساسا في قنابل تعبئة المدافع الثقيلة التي تنسف السفن الإسبانية الراسية في الشواطئ المغربية.
وهكذا أقبر هذا الاتفاق الذي يعود تاريخه إلى قرابة خمسة قرون خلت، بالإضافة إلى وجود بوادر اتفاق مغربي- بريطاني، على خلفية ازدهار تجارة السكر المغربي، حيث كان مخططا أن يتفق المغرب وبريطانيا على غزو الهند، وهو ما قامت به بريطانيا فعلا لوحدها في السنوات القليلة التي لحقت الاتفاق المجمد القاضي بتزويد المغرب بالسلاح.
 كان المغرب وقتها على موعد مع محطة تاريخية لو تحققت لصارت الدولة المغربية من القوى الكبرى دوليا في القرون اللاحقة، لكن تآمر القوى الأوربية الأخرى، وفشل استمرار الاستقرار السياسي في المغرب، خصوصا بعد سقوط الدولة السعدية وانهيار الاقتصاد المغربي الذي بلغ مكانة عالمية غير مسبوقة من خلال السيطرة على تجارة الموارد الأساسية لدول أوربا. ورغم ذلك فقد كانت بريطانيا دائما حريصة على ربط اتصال بالمغرب، حتى في بداية عهد العلويين، حيث أصبحت فترة حكم المولى إسماعيل إحدى أفضل الفترات التي عاد فيها الدفء إلى العلاقات المغربية- البريطانية، واستعادت البلاد خلالها بعض أمجاد ما وصلت إليه أيام الدولة السعدية.
قصة السفير بن حدو العطار الذي ذهب إلى بريطانيا سنة 1681
بن حدو العطار كان حاكما في تطوان، عينه السلطان المولى إسماعيل خليفة له. وهو ما كان يعني أن كلمته في المغرب كانت مسموعة. إذ إن اختيار السلطان المولى إسماعيل لرجاله كان يُحسب له ألف حساب.
تم استدعاؤه لكي يكلفه المولى إسماعيل بالذهاب إلى بريطانيا. ومن حسن الحظ أن سياسيين بريطانيين وقتها، مثل «ليونيل جينكنز» الذي كان من نبلاء بريطانيا ويحمل لقب «السير» كتبوا عن هذا السفير البريطاني. حيث قال عنه، ما جاء في كتاب تاريخ العلاقات المغربية- البريطانية حتى سنة 1900، لصاحبه البريطاني «ج. روجرز»: «يبدو لي السفير شخصا حسن المعشر ومتفهما، وهو ينتمي من جهة أبيه إلى أسرة من أعرق الأسر. أما من جهة أمه فيبدو أنها كانت امرأة إنجليزية».
هل يعقل أن يكون السفير المغربي نتاج زواج مختلط؟ لا يوجد ما يؤكد هذا الطرح، لكن بما أن السفير المغربي ينحدر من تطوان، فلا بد وأن ملامحه «الموريسكية» على اعتبار أنه سليل أسرة من الفارين من الأندلس والمستقرين في تطوان، جعلت المسؤول البريطاني يصل إلى ذلك الاستنتاج.
تأخرت رحلة هذا السفير المغربي لأسابيع بسبب أزمة حول اختيار مترجم مناسب له يرافقه خلال الرحلة. لكن الرحلة تمت بعد عدة مراسلات ومشاورات تدخل السلطان لاتخاذ القرار النهائي بشأنها ليقرر أن تتم الرحلة فعلا، وهكذا سافر العطار إلى بريطانيا بحرا في التاسع من دجنبر 1681، ليصل إلى بريطانيا في يناير من العام الموالي، حيث وصل إلى مدينة ديل البريطانية آخر أيام دجنبر، وتصادف وصوله مع احتفالات رأس السنة، ووجد عربة ملكية تنتظره هناك لتنقله إلى مدينة لندن حيث كان ملك بريطانيا وزوجته الملكة ينتظران وصوله وأعد استقبال ضخم له في واحدة من قاعات القصر الملكي. وقد كتب الإنجليز عدة ملاحظات عن هذا السفير المغربي الذي كاد أن يخلق أزمة بين المغرب وبريطانيا لأنه لم يكن ملما بالآداب اللازم احترامها بموجب البروتوكول الملكي البريطاني، إذ إنه جلس معتدلا ولم يحن رأسه أثناء استقبال الملك له، وقالوا إنه تقدم إلى العرش دون أن يظهر أي توقير ولم يحن لا رأسه ولا قامته.
كان أحد الدبلوماسيين البريطانيين حاضرا خلال الاستقبال، وهو «جون إيفلين»، وكتب في وثيقة تعود ليوم 11 يناير 1682، وهو الذي وثق هذه الملاحظات بشأن شخصية السفير المغربي وعدم احترامه البروتوكول الملكي، حيث قال:
«كان الجميع يرتدون الزي المغربي، وهو عبارة عن لباس من قماش الملون أو الحرير بأزرار. وفوق هذه ارتدوا عباءة فضفاضة تجمع الرأس والجسد بالإضافة إلى عمامة صغيرة. وبقيت الأيدي والسيقان عارية وإن كانوا قد انتعلوا أحذية جلدية خفيفة مثل الأتراك. وكانت عمامة السفير مرصعة بعدد من المجوهرات. وأتصور أنه لم يكن ثمة اختلاف كبير عن زي الرومان الأقدمين خاصة في ما يتصل بالعباءة والأطراف العارية.
أما السفير فكان مهندما على درجة من الوسامة ذا مظهر حكيم ورقيق وحضاري إلى أبعد حد. وكانت الهدايا التي أتوا بها من الأسود وريش النعام. أما مهمتهم فكانت حول السلام في طنجة. وبلغت الحشود والجلبة حولهم حدا لا يطاق إلى الدرجة التي عجز  الضباط معها على حفظ النظام مما كان مثار دهشة هؤلاء الأجانب ذلك أن مثل هذه المناسبات في بلادهم تتسم بالنظام والهدوء والانضباط أكثر من أي مناسبات أخرى».

كواليس منسية لاتفاق قبل أربعة قرون باع المغرب بموجبه «البوتاسيوم» للإنجليز

المملكة التي لا تغرب عنها الشمس، وكانت كذلك فعلا. المملكة المتحدة، أو بريطانيا العظمى، التي كانت تستعمر دولا في قارات العالم الخمس. إذ في الوقت الذي كان نفوذ التاج البريطاني وصل إلى المشرق، كانت الدولة المغربية، أيام السعديين خلال القرن 17، لا تزال مستعصية على الاختراق. فشل الأتراك في دخول المغرب وظلوا يترقبون الأوضاع عندنا، خصوصا وأننا دخلنا في حرب ضروس ضد إسبانيا والبرتغال دفعة واحدة، ونالوا الهزيمة على يد من كانت أوربا تطلق عليهم «القراصنة» في كل من الرباط وسلا ونواحي مدينة الجديدة. في هذه المدن الشاطئية اكتسبت المقاومة البحرية المغربية سمعة مُلفتة في أوربا ونال احترام أكبر الدول، من بينها بريطانيا.
وحسب ما توفره بعض وثائق أرشيف المفوضية البريطانية، والتي تضم مراسلات سفراء إنجليز جاؤوا إلى المغرب، فإن بريطانيا حرصت فعلا على خلق علاقات اقتصادية وعسكرية أيضا مع المغرب.
إذ إن البرتغاليين قاموا بشن هجوم على مدينة سبتة سنة 1415، وهو وقت مبكر جدا يعتبر أقدم إشارة إلى وجود أطماع أوربية في المغرب قبل أزيد من 600 سنة من اليوم. إذ في تلك السنوات نجحت البرتغال أيضا في الوصول إلى طنجة ثم الجديدة وآسفي، التي كانت تعتبر أبعد نقطة وصل إليها الأوربيون في المغرب وقتها. ينضاف إليهم الإسبان أيضا في نفس الفترة، حيث ألحقوا بالمغرب هزائم كبيرة. لكن الأمر لم يطل، إذ مع قدوم السعديين، شنت الدولة المغربية معارك صاخبة جدا لاسترجاع ما كان يطلق عليها وقتها «الثغور». وفعلا نجحت في كسب احترام الدول الأوربية من جديد.
وهنا بالضبط بدأت أولى العلاقات المغربية- البريطانية، حسب ما ترصده الوثائق. وقال الباحث البريطاني «روجرز»، في الترجمة التي أنجزها لبيب رزق، والتي طبعت خلال الثمانينيات من القرن الماضي وتعتبر أول دراسة تناولت تاريخ علاقات المغرب وبريطانيا، ما يلي: «وقد قامت أول رحلة انجليزية معروفة إلى المغرب عام 1551 اشتركت فيها سفينتان هي «ليون أوف لندن» التي كان يقودها «الكابتن توماس ويندام» وكان في نفس الوقت قائدا للرحلة، وتمت رحلة ثانية في العام التالي تحت قيادة ويندام أيضا وإن ضمت ثلاث سفن هذه المرة، وموّل الرحلتين عدد من تجار لندن. وغادرت السفن الثلاث بريستول في أوائل ماي عام 1552 اتجهت إلى آسفي وهي محملة بالأقمشة والمرجان والكهرمان بنوعيه الأصفر والأسود وغيرها من البضائع. وفي آسفي تم إنزال بعض البضائع لنقلها إلى مراكش ثم استأنفت القافلة رحلتها إلى سانتا كروز (أكادير) محملة ببقية البضائع. ومنها قفلت السفن راجعة وقد حصلت في مقابل حمولتها على السكر والبلح واللوز، وهي الحمولة التي بيعت في لندن لدى عودة القافلة إليها في أكتوبر عام 1552.
وكانت بداية العلاقات التجارية بين البلدين ناجحة وذات عائد وفير، حيث ثبت أن كل بلد يستطيع أن يمد البلد الآخر باحتياجاته. فعلى الناحية المغربية رأى السلاطين أن بإمكانهم من خلال هذه العلاقة الحصول على السلاح والذخيرة كما رأى التجار إمكانية الحصول على الأقمشة الإنجليزية التي يتزايد الطلب عليها يوما بعد آخر، أما على الناحية الأخرى فقد اهتم الإنجليز بنترات البوتاسيوم المغربي لما تمتاز به من نوعية متفوقة، ونظروا نفس النظرة للسكر أيضا الذي تزايد الطلب عليه في أوربا خلال القرن السادس عشر. ومن المعلوم أن سلاطين السعديين استزرعوا مساحات واسعة في جنوب مراكش بقصب السكر وأوكلوا إدارة تلك المزارع إلى اليهود. وجلب تصدير السكر على هؤلاء السلاطين دخلا عظما ارتفاع معدل استهلاكه في أوربا».
هذا البوتاسيوم الذي صدره السعديون إلى بريطانيا كان أساسا بضاعة منع المغرب بيعها للخارج، واقتصر على الاستعمال الداخلي لها، خصوصا وأن البلاد كانت في حرب ضد البرتغال وإسبانيا. لكن مع تنامي العلاقات البريطانية- المغربية وحصول المغرب على صفقات مهمة مع بريطانيا، سمح السعديون للبريطانيين بالحصول على «البوتاسيوم» المغربي عالي الجودة.
 

يوميات السفير البريطاني بمراكش سنة 1577

في سياق أحداث فترة 1552 إلى 1570، كان البرتغاليون قد بدأوا يشعرون بالقلق من تطور العلاقات المغربية- البريطانية. علموا، من خلال مراقبة الملاحة البحرية، أن المغاربة بدأوا يحصلون على السلاح والذخيرة من بريطانيا العظمى مقابل تصدير السكر المغربي الذي أصبح المنتوج الأكثر طلبا في بريطانيا.
وحسب ما توفره وثائق الأرشيف، فإن بريطانيا اسمه «جون ويليامز»، والذي كان يعمل وكيلا لدى أحد أشهر تجار بريطانيا وهو السيد «لادموند هوجان». هذا الأخير باع الملك السعدي مجموعة من قنابل شحن المدافع، والتي استعملها المغرب وقتها للدفاع عن حدوده البحرية وهاجم بها سفنا برتغالية وإسبانية. وهو ما عجل بنشوب سوء فهم بين بريطانيا والبرتغال.
كان الملك السعدي، عبد المالك، في حاجة ماسة إلى القنابل، وكانت تلك الصفقة علامة فارقة في تطور الأسطول البحري المغربي أيام الدولة السعدية. لكن الأمر تسبب في مشكل داخلي بين أبناء الدولة السعدية، إذ إن الملك دخل في حرب ضد أخيه في مراكش بسبب صفقة السلاح مع بريطانيا، حيث اعتبر أغلب أفراد مستشاري الدولة السعدية، وهم إخوة الملك وأبناء عمومته، أن التعاون العسكري مع دولة غير مسلمة أمر محرم، بينما كان عبد المالك السعدي يرى أن الضرورة دفعته إلى التعاون مع الإنجليز لإنهاء الاستعمار البرتغالي لعدد من الثغور البحرية المغربية، حيث كانت البرتغال في السابق تحتكر عائدات موانئ مدن مغربية وتأخذها لصالحها.
حدث كل هذا عندما كانت الملكة إليزابيث الأولى ملكة لبريطانيا. وهذه الملكة التي يعتبرها الإنجليز إلى اليوم واحدة من الحاكمات الاستثنائيات في تاريخ بريطانيا، أرسلت التاجر لادموند هوجان الذي باع الملك السعدي قنابل المدافع، إلى المغرب. حيث أرسلت معه الملكة إليزابيث عام 1577 رسالة منها إلى الملك السعدي، وتم استقباله يوم فاتح يونيو بشكل رسمي وسلم الرسالة بيده إلى السلطان المغربي.
الرسالة تضمنت تأكيدات على بقاء ملكة بريطانيا على موقفها وهو ربط علاقات تجارية مع المغرب وتوقيع مزيد من الاتفاقيات حتى لو لم يرد البرتغاليون لتلك الصداقة أن تكون.
لكن المثير أن الملكة إليزابيث كانت قد أعلمت التاجر «هوجان» أن يخبر الملك السعدي أن ملكة بريطانيا لن تقدم مستقبلا أي دعم عسكري للمغرب في حربه ضد «الأمراء المسيحيين» وتقصد البرتغال وإسبانيا. لكنها في المقابل مستعدة لتزويد المغرب بأي سلع تصنعها بريطانيا في إطار التجارة الحرة بين البلدين.
بدا واضحا أن الكنيسة تدخلت بقوة لتمنع بريطانيا من المضي في اتفاقها العسكري مع المغرب، تماما مثل ما اتحد العلماء مع أفراد العائلة السعدية لكي يتدخلوا لدى الملك السعدي ويمنع تصدير المواد المغربية التي تستعملها بريطانيا في صناعة أسلحتها.
التاجر هوجان كتب رسالة عند وجوده في المغرب، بالضبط في مراكش يوم 11 يونيو 1577، يصف فيها الرحلة وكيف وصل إلى قصر مراكش في ضيافة الملك السعدي، حيث قال فيها إنه جاء من بحر آسفي ومر برا إلى مراكش، كما أنه عبر عن سعادته لأن الملك السعدي لم يتركه ينتظر طويلا لاستقباله، بل استضافه وتحدث معه في نفس الليلة التي وصل فيها إلى قصر مراكش. حيث قال «هوجان» في هذه الرسالة التي ترجمها لبيب رزق، ما يلي: «أخذني من يدي وعبر بي قاعة طويلة إلى مكان به نافورة جميلة حيث جلس على مقعد خاص به وطلب مني الجلوس على مقعد آخر بجواره واستدعى عددا من الموسيقيين. حينئذ تقدمت له بعود ثمين فقبله شاكرا. وسألني بعد ذلك عن الموسيقيين الذين يستخدمونه فقلتُ إن إحضارهم يحتاج إلى عناء كبير وأشرت إليه بأنه ما أن أعود حتى يجيئوا على أول سفينة وقد أبدى استعداده بتقديم ما يحتاجون إليه من رعاية ومأكل. وكذا بأن يتيح لهم الحياة وفق نظامهم ورغباتهم. وإني أراه إنسانا يعيش على مخافة الله وعلى دراية بالكتاب المقدس سواء العهد القديم أو الجديد وهو يحمل أشد مشاعر المودة لأمتنا بأكثر مما يحمل لغيرها من الأمم بسبب ديننا الذي يحرم عبادة الأوثان ويدعوه المغاربة بالملك المسيحي».
عندما طلب المولى الحسن الأول من الإنجليز تنظيم معرض له
مرت قرون على إحداث العلاقات السعدية- البريطانية، ومع العلويين اتخذت تلك العلاقات طابعا أكثر «حداثة». إذ في عهد المولى الحسن الأول الذي حكم المغرب وتوفي سنة 1894، مرت العلاقات المغربية- البريطانية بعدد من المحطات.
إذ إن هذا السلطان المغربي سنة 1889، راسل بريطانيا بخصوص موضوع البواخر الحربية البريطانية التي كانت تمر من السواحل المغربية، وطلب الاطلاع عليها. وجدير بالذكر أيضا أن الملوك العلويين، قبله، طلبوا أكثر من مرة أن تضع بريطانيا بعض سفنها رهن إشارتهم لنقل سلع مغربية، وكانت بريطانيا تلبي تلك الطلبات.
بل إن بعض الرسائل السلطانية من قصر فاس ومراكش، كانت تصف البواخر البحرية البريطانية بأنها لا تُقهر. وفعلا كانت من أقوى الأساطيل البحرية في العالم، إن لم تكن أقواها على الإطلاق في تلك الفترة.
قام المولى الحسن الأول بمراسلة مسؤولي البعثة الدبلوماسية إلى طنجة، حيث كان مقر المفوضية البريطانية في المغرب، وطلب منهم أن ينظموا معرضا له، لكي يطلع على الأسطول البريطاني الراسي في ميناء المدينة، حيث كانت الإشاعات تنتشر في المغرب عن قوة الأسطول البريطاني والمسافات الطويلة جدا التي يقطعها عبر بحار العالم لكي يصل إلى طنجة للتزود بالمؤونة ومواصلة رحلة العودة إلى بريطانيا.
كانت المحركات، وقتها، قد بدأت تدخل مجال النقل البحري، ولم يعد في الأسطول البريطاني وجود للسفن التي تسير بقوة الرياح. عالم المحركات شغل المغاربة جميعا وليس السلطان وحده، إذ إن الإشاعات المنتشرة بخصوص قوة تلك البواخر، كانت تتحدث عن قوة خفية في جوف تلك السفن تمكنها من قطع آلاف الكيلومترات بسرعة بدون حاجة إلى الأشرعة ولا إلى عمال التجذيف. وهو ما أكسب البحرية البريطانية وقتها سمعة مرموقة على المستوى الدولي.
بالمقابل، كانت بريطانيا، برغم قوتها البحرية، في حاجة إلى المغرب بحكم الموقع الجغرافي، وهو ما استغله السلطان المولى الحسن الأول جيدا لصالحه، عندما فاوض الإنجليز الذين جاؤوا إليه إلى قصر فاس، حيث كانوا يرغبون في اتخاذ ميناء طنجة محطة للتزود بالمؤونة للسفن الحربية البريطانية. فاشترط عليهم المولى الحسن الأول أن تقوم تلك السفن بدور حماية السواحل المغربية، خصوصا وأنه سمح لهم بالرسو في المدن البحرية المغربية على طول المحيط الأطلسي. وهو ما اعتبره البريطانيون وقتها صفقة مهمة جدا، بينما كان المولى الحسن الأول قد ارتاح من الغارات الإسبانية وحتى الغارات التي تنظمها القبائل المستقرة على الشواطئ ضد البواخر الأجنبية التي تمر بمحاذاة السواحل المغربية.
 
حين كانت بريطانيا تختار قناصلتها من المغاربة
جاء في مقالات يوميات المراسل الصحافي البريطاني لاورنس هاريس، الذي أقام بين المغاربة لأشهر سنة 1909، وتزامن وصوله إلى المغرب مع وصول المولى عبد الحفيظ إلى السلطة، ما يلي:
فترة قصيرة بعد استقراري بالحي بمدينة فاس، تلقيت دعوة من الحاج الطاهر مكوار، الذي يعمل وكيلا للمفوضية البريطانية حتى أزوره في بيته.
اللقاء معه لم يترك لدي أي انطباع يذكر. في رأيي فإن المفوضية البريطانية الكائن مقرها في طنجة لا تختار وكلاءها جيدا. وجدته مستلقيا فوق فراش يعاني من وباء منتشر بكثرة تلك الأيام. وجهه متجعد تطغى عليه بصمة العيش طويلا في لندن، المدينة التي يقال إنها عاصمة انعدام الأخلاق وسواد الفساد في العالم. لا أحد يعرف ماذا كانت واجباته الدبلوماسية، كان يسعى إلى ممارسة صلاحية القنصل، لكنه لم يحظ بموافقة القنصل العام في طنجة.
القنصل العام أخبرني أن الحاج الطاهر مكوار لا يتوفر على أي سند أو قوة قانونية، وأنه ليس مسؤولا عن تصرفاته وتحركاته. كان فقط وكيلا يفض النزاعات بين المحليين، ومغربيا «محميا» كغيره من المحميين، ويتقوى بالوقوف خلف المخزن. المغاربة يكرهونه ويعتبرونه مثل اليد التي يحك بها البريطانيون جسمهم. كان كلما وجدته يتدخل في نزاع معين، يردد هذا القول: «ما يشاء الله لا بد له أن يكون».
كان مؤدبا معي إلى أبعد حد، خصوصا وأنني أحظى باهتمام السلطان ورعايته. المغاربة جميعا، وخصوصا منهم أولئك الذين يعملون في وظائف رسمية مع الدولة، عبارة عن مجموعة من المشوشين. لا يتوقفون عن التزلف والتذلل».
لم يتوقف الأمر هنا، بل رصد هاريس في سلسلة مقالات نشرتها صحيفة التايمز، محققة بذلك سبقا صحافيا كبيرا بعد التطورات السياسية التي وقعت في المغرب تلك السنة، وهي تغطي النزاع بين مختلف أنصار أبناء المولى الحسن الأول على السلطة، مجموعة من الشخصيات المغربية التي كانت تتعامل مع المفوضية البريطانية التي كان مقرها في طنجة، وتحدث عن المسؤول البريطاني هناك، ووصفه بأنه شخص لا يكترث للسلامة الجسدية للمواطنين البريطانيين الذين جاؤوا إلى المغرب، حيث نصحه عندما علم بأنه في مهمة صحافية داخل المغرب، ألا يسافر إلى فاس وأن يبقى في طنجة، وهو ما اعتبره هذا الصحافي تملصا للمسؤول البريطاني من مهامه الدبلوماسية والقنصلية، التي تقتضي مراعاة سلامة مواطني بلاده داخل المغرب. إذ كتب عن هذه الواقعة قائلا:
«قمت بإرسال طلب إلى المفوضية البريطانية بالمغرب للحصول على الحماية الجسدية في الفترة التي أكون فيها بالمغرب بحثا عن لقاء السلطان. لكنني لم أوفق في بحثي الأولي، حتى إن مكتب الخارجية البريطانية في المغرب رد علي بجواب مقتضب، يوضح رفض المصالح البريطانية بالمغرب لفكرة لقائي مع السلطان ونصحوني ألا أقوم بأي أمر مشابه.
خسارة الدعم البريطاني والاستقواء بمكانة المكتب الدبلوماسية، كان سببا مباشرا في عدد من الصعوبات التي تعرضت لها طوال فترة إقامتي بالمغرب».
هذه الواقعة التي حكاها المراسل الصحافي لاورنس هاريس تكشف جزءا من خبايا تاريخ العلاقات المغربية- البريطانية المشتركة، حيث كانت بريطانيا لا تمانع في توظيف مغاربة بمنصب قنصل تابع لها، ويمثل وجودها في المغرب، فترة قصيرة قبل توقيع معاهدة الحماية الفرنسية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى