شوف تشوف

الرأي

الإيراني

شامة

تفاجأت، وأنا أتوصل برسالة على حسابي على «فيسبوك»، بشخص اسمه عباس، كتب الرسالة بالفرنسية، وسألني «هل تذكريني؟ أنا عباس، السائق الإيراني الذي أقلك في بروكسيل إلى المطار».
عادت بي الذاكرة إلى أربع سنوات خلت، ولغرابة الأقدار أن الحادثة وقعت في يناير، مثل هذا الشهر، وقتها كنت في بروكسيل، أجلس في بهو الفندق أنتظر قدوم السائق. كانت الساعة تشير إلى الثالثة صباحًا بتوقيت بلجيكا، وكنت أقاوم نعاسًا لذيذًا حرمت منه لأكون في الموعد مع الطائرة التي ستنقلني إلى طنجة. لمحت في ظلمة ليل بروكسيل سيارة أجرة، نزل منها رجل بدا في أواخر عقده الرابع. كان يرتدي سترة لونها أكثر سوادًا من شعره الذي خطه بعض الشعر الأبيض، ومن خلف نظارته الطبية لمحت حزنًا في عينيه السوداوين.
أخذ حقيبتي، فتحت الباب الخلفي، وجلست أستعد للنوم فالطريق إلى مطار شارل لوروا سيأخذ مني ساعة، تجنبت أن أنبس بكلمة حتى لا تتحول الكلمة إلى حديث يقطع رغبتي الشديدة في الاستسلام للنوم، لكني وجدته يقول لي فور أن اتخذ مقعده:
– لقد انتظرت ثلاث ساعات قبل أن يحل موعد قدومي إليك.
– لم أفهم قصده، استفهمته فأجاب:
«لا يوجد عمل سيدتي».
سألته:
– هل أنت بلجيكي الأصل؟
أجاب:
– لا، أنا إيراني..
علقت قائلة:
– أنت رابع إيراني ألتقي به. الأول كان في المكسيك، والثاني والثالث في أمريكا، وثلاثتهم لاجئون سياسيون.
أجابني:
– وأنا أيضًا.
صمتتُ لحظة أحاول أن أستجمع سمعي الذي غلب عليه النوم كما عيني، ثم وجدتني أقول له:
– أحقًّا؟
كان التعب قد أخذ مني مأخذه، لكن كلمة «أحقًّا» هاته جعلت صديقي السائق ينطلق في الحكي، رد قائلا:
«نعم، لقد كنت في عقدي الثاني حين خرجت ورفاقي أناهض الشاه، لكن الخميني سرق منا ثورتنا الجميلة، اعتقلت وتوفي والدي وأنا مسجون فسمحوا لي بالخروج يومين لحضور جنازته، لكني نفذت بجلدي هربت إلى تركيا بدون أوراق ولا أي شيء، ثم أتيت إلى بلجيكا، كنت أريد أن أهاجر إلى أمريكا لكن الأقدار شاءت أن آتي إلى هنا وهنا بقيت منذ 25 سنة. أنا الآن سائق أجرة، شريك مع صديق لي إيراني بدوره، عمري الآن 53 سنة، وإلى اليوم لم أوفق في ممارسة المهنة التي أحب وهي التصوير الفوتوغرافي. في بلدي إيران كنت مصورًا، صورت العديد من حفلات الأعراس وكنت سعيدًا، كان لي أهل يحبونني وأحبهم، تزوجت بامرأة أردت أن أكون بطلها، لكنها كانت مجرد كاذبة مستغلة، حين أتت إلى بلجيكا مع طفلي الوحيد انقلبت علي وحرمتني من رؤية ولدي لسنتين. ولدي الآن شاب في الـ26 من عمره، علاقتي به جيدة لكن له حياته الخاصة ونادرًا ما نلتقي مع أننا في المدينة نفسها. بلجيكا لم تعد كما كانت مع انفتاحها على هجرة الأوروبيين الشرقيين، هم لا يحبون المهاجرين، لكن لا يستطيعون قولها علنًا، لم يعودوا يحبون المهاجرين، ففرص العمل أصبحت قليلة، والغلاء يزداد يومًا عن يوم، والسماء رمادية، والناس أكثر رمادية من السماء».
لفتني وصفه للناس بالرماديين، كنت أتأمله من مقعدي الخلفي وهو يتحدث، بدا خجولًا، مضطربًا، كان كتفاه العريضان يقاومان في عناد فارسي قهر الغربة والسياسة وظلم الحب. كانت إشارة المرور حمراء، توقف، والتفت إلي وقال لي بنظرة طفل من وراء نظارتيه الطبيتين: «أريد أن أعود إلى بلدي إيران، لكني لا أستطيع، وحتى إن استطعت ماذا أفعل هناك؟ الحياة هناك أغلى من هنا، ولا أدري كيف يمكن أن أجلب رزقي هناك، أريد الهجرة إلى كندا هي أرحم من أمريكا لكني لم أعد صغيرًا، وأصبحت مريضًا، لقد أصبت بمرض القلق بسبب الضغوط اليومية. أنا إنسان تعيس ووحيد وفقدت كل ثقة لي بالنساء، وبالناس».
فتحت إشارة المرور على اللون الأحمر، استدار السائق إلى الخلف يتأملني، فتحت الإشارة الخضراء، وضع يده على المقود وأكمل السير وهو يقول: «لست أفهم كيف استطعت أن أحكي لك كل هذا، أنا أشعر بأني أفضل الآن، لقد استطعت الحديث عما كان يؤرقني ويحزنني ولست أدري كيف مر الوقت سريعًا لقد وصلنا إلى المطار».
لم أردد إلا كلمة شكرًا، فقد كان ما سمعت أثقل على قلبي الضعيف من أن ينطلق لساني مرحًا. كنت حزينة على هذا الرجل، عباس كان اسمه، وفي حزني عليه تذكرت صديقي عبد الرزاق، سائق «التاكسي» المغربي الذي التقيت به في واشنطن وبادر إلى الحديث إليّ وحدثني عن حياته في ساعة. كانت قصة عبد الرزاق نسخة مشابهة لقصة الإيراني عباس، إلا أن هجرة عباس كانت إجبارية، فرضتها عليه إيران الخميني في حين هجرة عبد الرزاق فرضها عليه فقدان والدته وعدم قدرته على العيش في المغرب بعد رحيلها.
نزلت من «التاكسي» وحين مددت يدي إلى الحقيبة آخذها من عباس وجدته يسألني:
-هل أنت متزوجة؟
ابتسمت وأجبته:
لا ليس بعد…
مد لي بطاقة عمله وقال:
هذا رقم هاتفي حدثيني حالما تنوين الزواج سوف أكون سعيدًا بأن أحضره، سأكون سعيدا بأن أستعيد حلمي في التصوير وأكون مصور حفل زفافك.
حدث هذا منذ أربع سنوات، واليوم يعود عباس ليذكرني بنفسه، وكأنه يريدني أن أتذكر أني لم أنس قصته يوما، مهما مرت السنوات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى