رفيق خوري:
في عالم اليوم كثير من «اللايقين» والأسئلة الحائرة الباحثة عن أجوبة واقعية. وبين هذه الأسئلة سؤال كبير يدور بالمنطقة الممتدة من أفغانستان إلى البحر الأبيض المتوسط، إلى متى أو إلى أي حد يستطيع أهل الإيديولوجيا أن يحكموا جيل التكنولوجيا؟ ولا جواب، رغم النظريات السريعة التي أعلن أصحابها «نهاية الإيديولوجيا»، بعد انهيار جدار برلين وسقوط الاتحاد السوفياتي.. فهي لا تزال حاكمة بالصين وكوبا وكوريا الشمالية وفيتنام، بصرف النظر عن شيء من اقتصاد السوق في بعض هذه الدول. بل إن زعيم الحزب الشيوعي الصيني، شي جين بينغ، طلب من كوادر الحزب مزيدا من «قوة القيادة الإيديولوجية». وهي لم تفقد جاذبيتها لدى أوساط مسحوقة بالأزمات وأوساط علمانية تعتقد أن ما سقط بانهيار الاتحاد السوفياتي هو تجربة اشتراكية انحرفت، لا الإيديولوجيا الماركسية.
فضلا عن أن الإيديولوجيا الدينية مزدهرة. فالهندوسية تشهد نزعة متشددة قادت إلى تضاؤل شعبية «المؤتمر»، حزب غاندي وجواهر لال نهرو، وتعاظم شعبية حزب جاناتا بهاراتيا، بقيادة نارنيدرا مودي. في الإسلام السياسي، بشقيه المتشددين، في السنة والشيعة. إيران محكومة بإيديولوجيا «ولاية الفقيه»، تمهيدا لـ«ظهور المهدي وحكم العالم». الحوثيون باليمن يسعون بعد عقود من الجمهورية إلى عودة «الإمامة» على أساس إيديولوجيا «المذهب الزيدي»، ولكن بعدما جعلوها أقرب للإيديولوجيا الاثني عشرية في إيران. وتنظيمات «داعش» و«القاعدة» و«الإخوان المسلمين» وبقية فصائل الإسلام السياسي تعمل ضمن إيديولوجيا استعادة «الخلافة».. لكن الصين رائدة في التكنولوجيا، وجيل التكنولوجيا هناك لا يعرف ماو تسي تونغ ولا ما قبل الثورة الشيوعية. ومن الصعب أن تستمر حياته محكومة بالإيديولوجيا، بعدما صارت وسائل التواصل والقدرة على تأمين الحياة الجميلة مفتوحة أمامه. وفي إيران جيل يجيد استخدام التكنولوجيا التي ينفق عليها النظام المليارات، ولو في المجال العسكري. وهو لم يعرف حكم الشاه وقسوة «السافاك»، بل ظلم النظام الحالي وقسوته الأمنية واستخدامه العنف ضد التظاهرات السلمية المطلبية، وفساد المسؤولين الكبار من الملالي. ومن الوهم استعادة الإمامة في اليمن. والوهم الأكبر هو أن تستمر سلالة كيم إيل سونغ في حكم كوريا الشمالية بالإيديولوجيا الشيوعية، وسط أوضاع اقتصادية مزرية أجبرت كيم جونغ أون، أخيرا، على مطالبة المسؤولين بالالتفات إلى الأوضاع الاقتصادية والمعيشية بعد عقود من «مواجهة الإمبريالية»، وبناء الصواريخ والقنابل الذرية.
ثم إلى أي درجة تصمد الإيديولوجيا أمام الجيوبوليتيك؟ روسيا اليوم بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين تمارس ما فرضه الجيوبوليتيك على الإمبراطورية القيصرية والاتحاد السوفياتي بعدها. هو يريد الهيمنة على الجوار القريب، كما فعل القياصرة ضمن مبدأ «أمن روسيا، حيث يكون الجيش على طرفي الحدود»، وكما فعل السوفيات حين ضموا الجمهوريات القريبة إلى الاتحاد، أيام لينين، بعد أن تركوا لها حرية الخيار في بداية الثورة. ولم يجد بوتين أخيرا ما يستشهد به لتوصيف الوضع الروسي وقبل غزو أوكرانيا، سوى قول وزير الخارجية القيصري ألكسندر غورتشاكوف، بعد الهزيمة في حرب القرم عام 1853: «روسيا لا تغضب. روسيا تتأهب». وجمهورية الملالي تطبق الجيوبوليتيك الفارسي، أيام الإمبراطوريات القديمة، ثم أيام الشاه، وإن بثوب ديني.
لكن من المستحيل الوقوف في وجه التطور. فلا نظام يستطيع تجميد الحياة والناس. ولا إيديولوجيا يمكن أن تطغى طويلا على الحقيقة.