الإيديولوجيا والتكنولوجيا (2ـ 2)
بقلم: خالص جلبي
يقول (جاك أتالييه) في كتابه «آفاق المستقبل» إن هناك خمسة مخاطر تهدد الجنس البشري: السلاح النووي، والتلاعب بالجينات، والمخدرات، وتلوث البيئة، ولكن أخطرها هو الانشقاق بين الشمال والجنوب، حيث يزداد الأغنياء غنى والفقراء فقرا. ويؤكد ذلك كتاب «فخ العولمة»، حيث يعيش المترفون من وراء جدران عالية يحرسهم رجال غلاظ شداد مسلحون. ولكن المتكبرين في العادة لا يسمعون وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا كانوا عنها غافلين.
إن أمريكا اليوم تفتح خزائنها وتفرش 40 مليار دولار لمكافحة الإرهاب، ولعلها لو أنفقت أقل منه لقضت على كل الإرهاب، وهذا يؤكد أن «العدل أقل كلفة من الظلم»، وهو درس للأنظمة العربية أن الإنفاق على الاستخبارات يضر أكثر مما ينفع. ولكن جرت سنة الله أن المترفين حق عليهم العذاب فدمروا تدميرا.
وأما «العبرة الثالثة» فهي حجم التدمير ومعاناة الناس، فقد هوى برجان يمثل كل واحد مدينة متوسطة الحجم، ومع أن الناس تدافعوا إلى سلالم النجاة بين الحرق والدخان والتصدع، فقد دفن تحت الأنقاض الآلاف من الناس، وهذا يشير إلى هشاشة الحضارة وسهولة النيل منها.
وإذا كانت القوى العظمى سابقا قد طورت أسلحتها النووية، فإن مجموعات صغيرة مدربة تستطيع اليوم أن تخنق الآلاف في أنفاق المترو، أو تهدم ناطحات السحاب على رؤوس أصحابها أو تفجر قنبلة بكترولوجية من نوع الجمرة الخبيثة في وسط مدينة كبيرة. فالحضارة كما نرى صعب بناؤها، سهل تحطيمها، ويمكن قتل الإنسان في لحظة ولكن تربيته تتطلب عشرين سنة. وكذلك الحضارة هي نتاج إنساني هش البنيان، ولا تمثل إلا غلالة واهية وقشرة رقيقة من الجلد تغطي جسم الوحش الإنساني، الذي خرج من الغابة قبل عشرة آلاف سنة فقط، بعد أن بقي يطارد الوحوش والوحوش تطارده ستة ملايين من السنين ولم يكن شيئا مذكورا.
وبتعبير المؤرخ (ديورانت) في كتابه «دروس التاريخ»: «الحضارة نظام اجتماعي يقوم بنشر الإبداع الثقافي. وهي نسيج متشابك ومعقد وغير ثابت من العلاقات الإنسانية، نسيج يتسم بالجهد في صنعه والسهولة في تدميره». وهذا يفسر «لماذا يمتلئ التاريخ بركام أنقاض الحضارات»، فليست هناك من حضارة تملك المناعة ضد الموت، وإن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم.
إن يوم 11 شتنبر 2001 م ونظراءه هو انعطاف جديد يؤكد «عبثية الحرب»، وهشاشة الحضارة، وسهولة النيل منها على يد أناس قليلي العدد، وأن بناء الأصنام النووية يرهن أصحابها للقوة.
لقد كان (بن لادن) الذي قضى نحبه في بلاد الهندوكوش وجبال تورا بورا يتكلم من عصر كافور الإخشيدي «أن السيف أصدق أنباء من الكتب»، كما أن (بوش الصغير) نطق في ما سبق باللغة نفسها مستخدما مصطلحات المواجهة في العصور الصليبية، فتحدث عن «حملة صليبية» في وقت يتحول فيه العالم إلى قرية إلكترونية، ودماغ جماعي مشترك لا انفكاك فيه بين البشر ولا يمكن.
وكما قال (غورباتشوف) في كتابه «البيريسترويكا» إن تطور العصر النووي يفرض تطورا موازيا في التفكير، أو بتعبير المؤرخ البريطاني (توينبي) أن «الخمر الجديدة لا توضع في زقاق عتيقة»، فلا الوعاء يمسك ولا الخمر يبقى. وهو مثل إنجليزي يقصد به أن الأفكار الجديدة تحتاج إلى مؤسسات جديدة وبنى حضارية موازية، وهكذا فالرق كان سينتهي مع الآلة الصناعية التي تلغي عضلة الرقيق والصناعة تولد الديموقراطية واللامركزية.
إن الأوروبيين حين يرسلون وفودهم إلى العالم العربي والإسلامي، مؤشر نضج بأن وضع العالم ودع الحرب، وانتهى وقت تكديس الأسلحة وبناء الترسانات النووية. ولكن أمريكا اليوم تمارس دور سحرة فرعون فتلقي حبالها وعصيها فيخيل للناس أنها من سحرهم تسعى. ولن ينجح في هذا الامتحان الأعظم إلا من كان في مدرسة النبوة، وتحرر من علاقات القوة.
والآن لماذا حدث ما حدث؟ وسؤالنا مجددا عن كارثة ضرب البرجين، بعد مرور كل هذا الزمن، ولا جواب عنه طبعا. إن أمريكا تسمح للحديث أن يمر في قناة ذات ثلاث شعب: من نفذ العملية؟ وكيف حدث ما حدث؟ وماذا جرى؟ وأما الحديث في «لماذا» فكان حجرا محجورا وهو الذي أشار إليه الصحفي البريطاني (كرستوفر هتشنز) من جريدة «الغارديان» لاحقا، مع أن الحديث في «لماذا» هو «الأساس» للحديث في «كيف».
علينا فهم أن هناك علاقة جدلية غير قابلة للانفكاك بين «كيف» و«لماذا» في متلازمة فلسفية، وما لم يتم الدخول للحدث من خلال تشريح وحدة «لماذا»، فإن المرض يبقى ناشطا لا برء منه. فالعنف لا يولد إلا العنف والإرهاب لا يعالج بالإرهاب. وعندما يقول (كيسنجر) على لسان أمريكا إن الذين ليسوا معنا هم مع الإرهاب، فإن هذا إرهاب لكل العالم، وهو ما قاله فرعون من قبل «ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد». واليوم تريد أمريكا التفويض الكامل من العالم للقتل، ولكن القتل لا يأتي إلا بالقتل، والدم يفجر الدم، والحقد يغذي الحقد، والكراهية هي بذور الخوف. وما لم يتم الخروج من الحلقة الشيطانية من الدمار المتبادل فإن المشكلة ستبقى تعس وتنتشر مثل السرطان وانتشاراته، وما حدث هو «نتيجة» حرب الخليج قبلها بعشر سنوات، كما أنه بدوره سيكون «سببا» لما سيأتي بعده، وهناك علاقة جدلية بين «السبب والنتيجة»، بحيث إن أحدهما يتحول ليقفز إلى مكان الآخر في حركة لا تعرف التوقف. ومع كتابة هذه الأسطر بدأ الغزل مع طالبان، بعد أن لاحت تباشير امتداد الحركة إلى مفاصل الانتصار وهزيمة عملاء أمريكا، ولكن هذا بدوره يقول إن الظلام ما زال يطوق المنطقة ولم يصيح بعد الديك حي على الفلاح!
في جبل سنجار بين العراق وسوريا تعيش طائفة معزولة تعبد الشيطان تسمى اليزيديين، إذا رسم حول أحد أفرادها دائرة انعقل فيها فلم يخرج، حتى يأتي من يشير بأصبعه فيكسر الحلقة فيخرج منها. وعقول الذين يؤمنون بالعنف تعيش ضمن هذه الدوائر اليوم، حتى يأتي من يفك لها هذا السحر.