الإهانة
اعترض طريقي رجل ستيني، وأنا على متن السيارة، أعرفه جيدا، يشتغل حارس للسيارات، رجل لطيف ومهذب، يعيش كبقية الملايين من المغاربة البؤساء على الكفاف والعفاف، فاجأني بالقول وعيناه تدمعان ” هل سمعت الخبر؟ وبصراحة كأن زلزالا هزني من الأعماق، أجبته بسرعة: ماذا حدث ؟ هل حقا لا تعلم وأنت من تصلك كل أخبار البلدة، فزادت شكوكي بأن مكروها قد ألم بعائلتي أو عائلة أختي التي تقطن بليبيا خصوصا أنه يعرف زوجها وبينهم قرابة دم خفيفة كما نقول نحن المغاربة.ولما علم أن أعصابي بدأت تتوتر، قال لي وكأنه يريد أن يسقط لقد مات ابني الوحيد، فقلت له لايمكن، فرد بنوع من الحرقة: لقد انتحر.
بقيت جامدا، كمن أصيب بجلطة دماغية، لم أصدق الخبر، ولا أريد تصديقه، هل يعقل هذا ياربي، شاب في 25 من عمره، لطيف ووسيم لا يتحدث كثيرا، ” مرضي والديه ” يشتغل كهربائي، بليته الوحيدة أنه كان يدخن وبشكل خفيف، يقبل على الانتحار بهذه الطريقة ” يصلي صلاة العصر” ويتناول سم الفئران ويضع حدا لحياته في رمشة عين، والأدهى من ذلك لم يترك ولو إشارة واحدة تفيد إقباله على الانتحار” صدمت والله صدمت عند سماعي قصة والده المسكين.
هل لازال للحكاية من بقية ؟ نعم ولكن خارجة مؤسسة الانتحار. والسؤال لماذا يقبل شاب في عز الزهور على الانتحار بهذه الطريقة الدرامية ؟
لاأريد أن أتحدث عن الجانب النفسي والمادي والروحي لفعل الانتحار فقد سبقني وتكلم فيه العديد من الباحثين ، وقد أفرد له إميل دوركايم دراسة خاصة في كتابه المشهور” الانتحار” ، ولكن فقط أريد أن الفت انتباه القراء والمهتمين، إلى استفحال ظاهرة الانتحار مؤخرا بشكل كبير بين الشباب ، وهذا مؤشر أن هناك شيئا غير عادي يحدث بيننا دون أن نستشعر ذلك، إن المجتمع أصبح يتحرك بوثيرة خطيرة وبمعدل جد مرتفع في عملية الاستهلاك دون الالتفات إلى بعض الفئات الهشة في المجتمع والتي تشكل الأغلبية الساحقة، باختصار شديد إن المجتمع القوي يأكل المجتمع الضعيف وكل ذلك يحدث في صمت وتواطؤ رهيب.
داخل هذه اللعبة المصطنعة، والمثيرة، لا يجد هذا الشاب وغيره أي قدم للمشي مع هؤلاء، إنه يشعر بفقدان المناعة وأن صلاحيته قد انتهت.فيبقى الحل الوحيد لديه هو ركعتين لله والمغادرة في صمت.
لم يترك هذا الشاب الوسيم أية رسالة، ولم يطلب أية ترقية تخرجه من عتبة الفقر إلى الحياة ولكن ترك جرحا عميقا يظل موشوما في ذاكرة البلد، وستظل الإهانة عالقة على جبين الدولة والمجتمع مدى الحياة.