الإنجليز حذروا «ماكلين» مدرب الجيش من التواصل معي
يونس جنوحي
«في الأخير، قامت القوات بهجوم، لكن كان يساورها الشك. كل رجل كان يتمنى أن يكون وراء رفيقه. ولا أذكر متى أدركوا أن القرية كانت خالية، وقتها فقط تحلوا بالشجاعة، وكانوا ينادون على بعضهم البعض ويلوحون ببنادقهم بفخر وخربوا الأثاث المتبقي الذي تركناه خلفنا.
في أقل من دقيقة، تحول الجيش إلى مجموعة من الحمالين، ولو أننا عدنا وتمشينا بينهم، فإنهم لن يعيرونا أي اهتمام.
كانوا يركضون جيئة وذهابا، ويترنحون من شدة ثقل ما كانوا يحملونه. كنا نراقبهم، وفجأة اشتعلت النيران في المنازل وكانت كرة اللهب ترتفع نحو السماء، ولم يكن ممكنا رؤية أي شيء بسبب الدخان».
تزحزح الريسوني في مكانه بجسده الضخم وبذل مجهودا كبيرا:
«والله، كان لدي منزل وهذه حقيقة مثل ما تشاهدينني الآن من لحم ودم. كان الرجال يهربون بسرعة كما لو أنهم ليست لديهم أي ممتلكات لحمايتها.
بعد تدمير «زينات»، لا أحد استطاع معرفة أين كنت أعيش فيها بالضبط، لأنني كنت قادرا على التحرك أسرع مما يتصوره «المْخزن».
في بعض الأوقات، كنت قادرا على البقاء فوق الحصان بدون طعام ليومين أو ثلاثة أيام. أتوقف فقط للصلاة وشرب القليل من الماء في الوادي. وفي أوقات أخرى، كنت أعيش مثل سلطان، آكل خروفا في كل وجبة.
لدينا مقولة: -لا يحق للرجل أن ينام فوق الحرير إلا بعد أن يكون جرب المشي حافيا.
بعد مدة، كان «زلال» مجبرا على عقد الصلح والهدنة مع المْخزن، بحكم أن لديه علاقات وممتلكات كثيرة في المنطقة. لكن قبل هذا، قطعنا عهدا بأن يحذرني مسبقا من أي مخطط جديد تضعه السلطة.
كان لدي أيضا جواسيس في طنجة وفاس، يرسلون إليّ تقارير عن كل شيء. توغلتُ في الجبال إلى أن اخترت العيش مع قبيلة «أحماس» التي لم يكن ممكنا أبدا هزمها، لأن بلادهم كانت مثل جدران هذه الغرفة، ومنازلهم كانت تتيح الرؤية مثل أعين الصقور. هناك قصة مفادها أن لديهم مدينة سرية ومخفية لا أحد يستطيع رؤيتها نهائيا. ويقال أيضا إن لديهم مكتبة قديمة تتضمن عددا من الكتب والمخطوطات المكتوبة بلغة غريبة. قمت بتحريات بهذا الخصوص، لكن لم أصل إلى أي شيء مؤكد. ربما هناك جانب من الصحة في هذه القصص، لأن علماء قبيلة «بني أحماس» لديهم حكمة لا تُدرس في المدارس.
أطلق السلطان عدة محاولات لإلقاء القبض عليّ، وجيوش «الگباص»، وزير الحرب، أكلت كل خيرات المنطقة إلى أن بدأ الناس يدعون ضده في المساجد.
وظهر في خدمة السلطان رجل إنجليزي ينادونه «ماكلين». رجل شجاع جدا وعلمه قليل. كان صديقا لي، لأنه كان يحب المغاربة وكان يلبس اللباس المغربي.
عندما تعب المولى عبد العزيز من محاولات إلقاء القبض على رجل، والتي تشبه محاولة إمساك الظل في مواجهة الشمس، أمر «ماكلين»، الذي كان مُدربا للجيش المخزني، أن يكتب إليّ ويعقد معي لقاء».
«السير ماكلين»، الذي يبدو أن الريسوني كان يعرف أمورا قليلة فقط عن حياته، كان وقتها أكثر شخصية جذابة في المغرب.
فهمتُ من أحد الذين اشتغلوا في المفوضية البريطانية في طنجة لسنوات، أن «السير ماكلين» بدأ حياته العسكرية عنصرا في فوج للمشاة في جبل طارق. ومع الأجرة القليلة التي كان يتقاضاها مقابل مهمة كانت مستحيلة، قدم استقالته وعبر إلى المغرب على أمل أن ينجح في بناء مسار مهني ناجح. ولأنه لم يجد ما يقوم به في المناطق المطلة على البحر، قرر الذهاب إلى فاس، وكانت وقتها مدينة غير معروفة تقريبا بالنسبة للأوروبيين ولا تثير اهتمامهم. وبعد عراقيل كثيرة، نجح أخيرا في الفوز بموعد للمثول أمام السلطان، وعبر عن انتقادات لاذعة لوضعية الجيش المغربي وأكد للسلطان أنه يستطيع تحويله إلى قوة نموذجية وجيش منضبط، إن مُنح له منصب الإشراف على التكوين والتدريب. أعجب السلطان بالشاب الأسكتلندي ومنحه فرصة تنفيذ وعده.
وفي الوقت الذي كان فيه الريسوني يتحدث، كان «ماكلين» قد لبث في منصبه قرابة ثلاثين سنة، وربح التحدي، ليس فقط التحدي أمام السلطان وإنما أيضا مع عدد من قادة القبائل.
ويبدو أنه عندما أسرّ إلى المفوضية البريطانية عن مخططه للسلطان وقادة الجبال، تم تحذيره من أي محاولة لمقابلة الريسوني. والشريف نفسه أخبرني الأمر ذاته.