الإلحاد حالة لا تطاق (1 ـ 2)
بقلم: خالص جلبي
البروفسور فيل تسوكرمان يعد الأول في العالم للإلحاد الرسمي (Atheismus)، فهو يبحث في عقيدة من لا عقيدة له، وحين يسأل وهو أب لثلاثة أطفال عن العقيدة النقية، وكيف يترك أولاده بدون توجيه من حاخام وكاهن وإمام؟ وهو سؤال يوجه إليه دوما من المؤمنين بالله وهو ليس منهم، وأين الفرق بين الخير والشر؟ يكون جواب السيد سكاكر (فيل تسوكرمان) أن القيم تتشكل ليس من خلال الموعظة، بل بما يراه الطفل من والديه في تصرفهما اليومي صدقا وعدلا.
إنه البروفسور الأول من نوعه الذي يشرف على دورات تدريبية في تدريس (الإلحاد)، وكعالم اجتماع فهو يبحث في (كلية بيتسر) بلوس أنجلوس كيف يعيش الملاحدة والإنسانيون (Humanist) والغنوصيون (اللاأدريون) وفرق أخرى، من التي لا تعتنق دينا ولا تؤمن بوحي وكتاب ويوم آخر وملائكة ومرسلين؟ كيف يربون أطفالهم على مواجهة مشاكل مثل الفقر والألم والظلم، والمرض والعوز والشيخوخة والموت؟ كيف يعالجون مثل هذه المسائل بدون آلهة تعين وصلوات تخفف، وبدون وعود عن حياة أخرى بعد الموت؟
الرجل يزعم لنفسه أنه يعتمد أرقاما إحصائية حيادية، ونحن نعرف أنها دوما غير حيادية وأنها متحيزة، حسب زاوية الرؤية، وكيفية وضع السؤال ولمن يوضع وأين وكيف ومتى؟
يقول (تسوكرمان) إن الشائع عن أمريكا أن التدين يزداد فيها استفحالا، وهو غير صحيح. فحسب البيانات التي بين يديه، يفر الناس من الدين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة، وهناك قريبا من نصف مليون سنويا يودعون الدين والديانة، وهذا يمشي باطراد منذ 25 عاما، تبلغ نسبة من هم دون الثلاثين عاما 32 في المائة. وقبل فترة قصيرة دعا إلى مؤتمر حضره 50 باحثا من عشر دول، لدراسة الآثار الاجتماعية للحرية الدينية تركا أو اعتناقا. ليصلوا إلى النتيجة التي تقول إن مزيدا من التعليم والرفاهية يتماشى مع ضعف الاهتمام بالتدين.
أذكر صديقا لنا حضر إلى السعودية حين كنت في الدمام، والرجل كان استشاريا في علم الأنسجة، قال لي: «أرى الناس هنا يكثرون من الدعاء حين الخروج إلى الطرقات. نحن في أمريكا النظام يحمينا أكثر من أدعيتكم». هنا تذكرت قانون الدعاء، أنه في مواجهة المجهول الذي لا تنتهي حوافه، وليس مقابلة عالم الشهادة بالدعاء، فهذا ليس من الدين ولا من العقل.
ويضيف رجل السكاكر (تسوكرمان) لعل الدانمارك البلد الأول في العالم بدون دين يعيش برفاهية وأمان، وتكسب فيه النساء ما يكسب الرجال. لنتذكر الآية 32 من سورة النساء: (للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن، واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما).
(تسوكرمان) يعود في أصوله إلى عائلة أيضا غير متدينة، أبوه في ألمانيا كان يغني باللغة (اليديشية)، وهي لغة قريبة من الألمانية. تخفى من النازية، ثم دبر هربه إلى لوس أنجلوس عام 1936م، أما والدته فكان أحب إليها الشواطئ أكثر من المعابد؛ فكانت مشهورة بالتزلج على أمواج الشاطئ.
كانت صدمته الأولى مع الدين حين أخذته صديقته كريستي (Kristy) إلى الكنيسة الانجليكانية وعمره 15 سنة، و«حينما قالت لي إنها تؤمن بالله ضربت بيدي على رأسي، وكانت صدمة لي، وكأنها قالت في جعبتي شيطان (KOBOLD)».
في الدول الإسكندنافية وصل تسوكرمان إلى القناعة التي تقول إن غياب الدين مريح جدا، وإن دوره في المجتمع على ما يزعم المحافظون أنه يمسك بتوازن المجتمع باطل، ولا يقود قط إلى الفوضى، والدانمارك تحديدا أثبتت الكثير من السلام الاجتماعي ونسبة جريمة أقل.
من ينظر في الشرق المنكوب يتعجب من اقتتال أهل الديانة الواحدة بكل ضراوة، عن خصومات قام بها أناس قبل آلاف السنوات، متوقفين في مربع الزمن والعقل، وهو يحكي قصة ولادة أمريكا بعيدا عن هذه الحمى الشيطانية، ويخطر في بال البعض أن أمريكا (بيوريتانية)، والصحيح أن آباء أمريكا المؤسسين كانوا واضحين في ذلك، بفصل الدين عن الدولة.
أذكر قصة لي من القصيم حين طلب مني الطبيب المسيحي عفيف مساعدته في مراجعة دائرة المرور؛ ليقف على رأسنا ضابط واعظ فقال له: «لقد ثبت علميا في بريطانيا أن الأموات المسيحيين يسود لونهم بالوفاة، أما المؤمنون فيأخذون اللون الأبيض (تأمل العنصرية)»، ومن أجل هذا نصح صديقي بإعلان إسلامه دون إبطاء.
يقول محمد كامل حسين في كتابه حول القرآن، إنه ليس أفظع من قضية صحيحة يتبناها محام غبي فاشل.
دعاية هذا الرجل أثرت على شخصية هامة من حجم (بارت كامبولو الذي كان والده المستشار الخاص لكلينتون في القضايا الدينية)، ويروي عن هذا الحنين إلى المجتمع الكنسي القديم، حتى تعرض لحادث كاد يودي بحياته، فتغير الرجل وتحول إلى دين الإنسانية وودع الكنيسة، ويعمل كمرشد إنساني في جامعة كاليفورنيا، ويتحدث بغبطة عن جمال الطبيعة ونظرية التطور.