شوف تشوف

الرأي

الإعراض عن الحاضر

الإعراض عن الحاضر
عبد الإله بلقزيز

بين نظرتين إلى الزمن متقابلتين: واحدة إلى الماضي وثانية إلى المستقبل، يرتفع الحاضر ويغيب من الأفق الذهني تماما!
والمفارقة في أن الغالب على تينك النظرتين، البرانيتين على الحاضر والمهاجرتين إلى زمنين متباعدين، أنهما تدعيان حرصا على حاضر هو عينه الذي يدفع كلا منهما إلى البحث لهذا الحاضر عن نموذج قد يكون جُربَ في زمن ما، أو عن نموذج آخر بالكاد بدأ تجريبه عند غيرنا في مكان ما من العالم. في الحالين، لا يملك الحاضر جوابا عن نفسه وعن حاجاته من داخـله؛ فهو منفعل فقط وليس فاعلا؛ وهو محض ميدان لتجريب ما كان قائما في غيره. لا يملك الحاضر ذلك لأنه ليس سيدا على نفسه، وإنما هو محكوم من زمنين يقعان على طرفيه: قبلا وبعدا!
هذا منطق نظرتين إلى الزمن مغاليـتين تجاه حاضر لا يعنيهما، بما هو زمن خاص مستقل، بل فقط من حيث هو حـقل اختبار نموذجين يقع التمذهـب لهما من قِـبَل مَن هُم مسكونون بسحر الماضي أو المستقبل. وليس يهم، في المعرض هذا، إن كان دعاة هذين الزمنين من محتدين مختلفين، وبالتالي يقفون من بعضهم موقف تقابل وتناقض، بل وعداء، وإنما الأهم أنهما يتحالفان معا، بموقفـيهما، ضد الحاضر ويلتقيان عند تجاهله ومحو كيانيته! لذلك يجد أولئك الذين هم مهمومون بالحاضر أنفسهم في حال عسراء من أمرهم وهم يواجهون ضغط هاتين النظرتين – ومن تقف خلفهما من التيارات – عليهم وعلى قضيـتهم الأساس: عمارة الحاضر.
لهؤلاء ولأولئك أسماء ونعوت مختلفة باختلاف من يطلقها عليهم. يكنى الأولون بالتراثـيين والتقليديين والأصاليين والماضويين…؛ ويكنى الثانون بالمتغربنين والحداثـويين (دعاة ما بعد الحداثة)… إلخ. يجتمع الأولون على فكرة جامعة هي التقـليد بحسبانه السنة التي ينبغي أن تجري عليها الأمة والحياة ولا تحيد عنها، وهو – وإن كان من الماضي – ليس محصورا، عندهم، في الماضي فحسب، وإنما يمتد سلطانه إلى الأزمنة جميعـها. أما الثانون فيجتمعون على فكرة جامعة هي ما بعد الحداثة. وهذه لحظة من الزمن وَلَج الغرب بداياتها، لكنها ستمتد في المستقبل، ولا مهرب لأمة أو ثقافة أو مجتمع من أن تنخرط فيها فتنجو من الفناء، أو تتنـكب عن ذلك فينفرط عقدها. هكذا يوضع الحاضر، أي مجتمعات اليوم، بين خيارين: العودة إلى الماضي وهندسة الآن عليه، أو الهرع إلى المستقبل ومحاكاته، أي – في الحالين – الازورار عن الحاضر ونفي زمنيـته الخاصة… ووأد حاجاته الخاصة!
وأحسب أن تحديات الحاضر، بما هو زمن خاص، لا يملك مشروع أن يجيب عنها سوى مشروع الحداثة. لا التقليد يلائم هذا الحاضر (لأن واحدة من إعضالات هذا الحاضر أن بعض تبعات التقليد وذيوله – المنحدرة من الماضي – ما فتـئت تلقي القيود على حركة التـقدم فيه وتئدها في المهد)؛ ولا ما بعد الحداثة تلائمه، لأن هذه لا تكون ناجعة – إن كان لها من نجاعة حقا- إلا بعد أن تكون الحداثة قد رسخت وتوسعت وأنـتجت مكتسباتها، ثم دخلت طور أفول استنفدت فيه ممكناتها؛ وهذه ليست حال المجتمع العربي والثقافة العربية. لا مهرب للحاضر العربي من مشروعه الخاص الذي يطابقه ويجيب عن أسئلته ويشبع حاجاته: مشروع الحداثة؛ هذا وحده الذي من طريقه نتأدى إلى تحقيق الأهداف الكبرى: العقلانية، العلم، الإنتاج، التنمية الشاملة، الدولة الوطنية الحديثة… إلخ؛ الأهداف التي حلم بها النهضويون العرب منذ القرن التاسع عشر، وظل أكثرها معلقا وعصيا على التحقيق منذ ما يقارب قرنا ونصف قرن من الزمن. وإذا كان المشروع هـذا غيـر جديد على الوعـي العربي – هذا الذي ظل يتمثله وينتج رؤى وتصورات ومعارف من داخله – فهو ليس برانيا، تماما، عن الاجتماع العربي؛ إذ شهد الأخير على بعض من معطياته في النظام الاقتصادي والاجتماعي والتربوي و- إلى حد ما – الاجتماعي والسياسي ويمكنه بالتالي أن يقطع فيه أشواطا جديدة ويغنم منه مكتسبات جديدة، من غير أن يعتوره خلل في التوازن.
من النافل القول إن حداثة الحاضر، في مجتمعاتـنا العربية، ستجد نفسها، موضوعيا، في حالة اشتباك مديد مع تقليد الماضي ودعاته في الحاضر، أكثر من أي اشتباك قد يندلع بينها وما بعد حداثة المستقبل؛ لسبب معلوم هو أن جمهور الماضي والتقليد أضخم وأقوى وأكثر تنظيما من غيره، من جهة، ولأن العدو الفعلي للتـقليد وقواه هو الحداثة وجمهورها المتواضع من جهة أخرى. بل إن قوى التقليد لا تُبدي – وهي لم تبد مرة – خشيتها من دعوة ما بعد الحداثة، ليس فقط لأن بعض خطابات التقليد تتوسـل مفاهيم وأدوات من منظومة ما بعد الحداثة، بل لأن كل نجاح تحرزه ما بعد الحداثة ضد الحداثة يصب في مصلحة التـقليد! هكذا يتحالف الزمنان وخطاب كـل منهما لمواجهة غريمهما المشترك (الحاضر) وتبديده…

نافذة:
لا مهرب للحاضر العربي من مشروعه الخاص الذي يطابقه ويجيب عن أسئلته ويشبع حاجاته مشروع الحداثة هذا وحده الذي من طريقه نتأدى إلى تحقيق الأهداف الكبرى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى