الإسبان قدروا ثروة الريسوني عندما صادروا أراضيه بستة ملايين «بسيطة»
ترجمة حصرية لمذكرات المغامِرة البريطانية روزيتا فوربس (4)
يونس جنوحي
مع انتعاش الجو بعد المغيب، وبينما كان لون المنازل في الجبل يتحول إلى الزرقة، قمت بجولة استكشافية في الشاون.
كلما تقدمت في المشي، تأخذ الأزقة الضيقة في الانحدار. كل زقاق عبارة عن منحدر من الصخور. هذه المنحدرات تتجه نحو المسجد ونحو الساحة، حيث كان اليهود لا يصلون إليها خوفا من تدنيس قدسيتها.
كان الطريق إلى السوق أضيق من أن يسير فيه شخصان جنبا إلى جنب، ومسقفا بقطع من الحصير المحلي. تحول سقف الحصير بشكل مفاجئ في الشتاء إلى طبقة من المياه المتجمدة بسبب برودة الطقس. العرب يؤمنون بأن تلك المياه المتجمدة هي السبب في معظم الأمراض.
كان رجل مصاب بالجذام يجلس مقوس الظهر بالقرب من السقف المتجمد. تشوه وجهه ليصبح مثل وحش.
توقف الشيخ الذي يرافقني وحاول منحه بعض البركة لكي يتماثل للشفاء.
قال لي:
-في الحرب العظمى، جاء إلينا رجل ألماني متخفيا ليلا. كان الأوربي الوحيد الذي استطاع ولوج بلدتنا. ربما جاء في مهمة عمل لصالح الشريف. (هذا الرجل الألماني طبعا كان هو «مانيسمان»، الماكر الشرير فائق الذكاء في شمال إفريقيا).
كان هناك دائما صدى لشخصية أثرت على المغرب. وزاد من حضورها امتزاجها بتراب المغرب وجباله وتغلغلها بين المغاربة.
هنا، رأى الريسوني أحد الشرفاء مخمورا، وتوجه إلى المتفرجين الشامتين فيه قائلا:
-إن هذا الرجل لديه بركة من الله. ما تراه أعينكم ليس حقيقيا. إنه يعيش في خضم ألم النبوة. أحضروه إلى خيمتي.
لم ير أحد ذلك الشريف مجددا، وتقول الأسطورة إنه أُرسل إلى الجنة!
اتخذ الريسوني هذه البلدة ملجأ من تقدم القوات الإسبانية، ومن خلف أسوار القلعة أطلق مقولته التي انتقلت من بلد إلى آخر:
-هذه بلدي، وأنتم قبيلتي. لا شيء سوف يُنتزع مني، إلا بعد موتي، حيث سوف يذهب كل شيء.
من الشاون، يمكن قيادة السيارة عبر التلال إلى جبل هاشم، والاتجاه رأسا إلى «تازروت».
لكن بما أنني كنت أريد أن أرى المزيد في البلدة التي حارب فيها الريسوني، غيرنا مسارنا.
أخذنا معنا الشريف المُسن، مولاي الصدّيق، وسلكنا طريق وادي «الرس» وفندق «عين وريضة»، مقر القيادة الذي اعتمده الشريف خلال شهور الحرب، في اتجاه «عزيب العباس». وفيها تركنا الطريق الرئيسية، وبدأنا في النزول في منطقة معزولة تكسوها الحجارة الداكنة، في اتجاه بني مسرار التي كانت الملجأ الدائم للريسوني عندما يشتد عليه الضغط.
منزل العياشي الزلال، حليفه ووالد زوجته، يختفي في مكان ما خلف هذه الصخور، لكننا انعرجنا في اتجاه وادي هريشة، حيث تنتشر أشجار الزيتون مثل خيام على طول مجرى الوادي الذي غطته النباتات. كان الجميع يحتمي تحت أغصانها. كانت المرة الأولى التي أرى فيها ذلك القدر من أشجار الدخن سريعة النمو.
قال لي مولاي الصدّيق، الذي أرخى قب جلابته ليغطي رأسه فلم يعد يظهر منه سوى أنفه الطويل ونظّاراته كبيرة الحجم:
-هذه أراضي الشريف. كل ما يمكنك رؤيته من الآن، مِلك له.
أضاف السيد «سيردييرا»، المترجم الرسمي بين الحكومة الإسبانية والريسوني، والذي رافقني مشكورا إلى «تازروت» حيث يُعتبر أول أوربي زارها، أنّ إسبانيا عندما صادرت ممتلكات الشريف خلال الحرب الأخيرة، قدرتها بستة ملايين «بسيطة».
بالتأكيد، كانت المنحدرات حيث تنتشر القرى، تبدو مناسبة جدا للزراعة. رغم ذلك، كان لا يزال هناك هكتارات من الأراضي التي يتنشر فيها الشوك، والتي يظهر أنها سوف تصلح لزراعة الحبوب.
لاح لنا مركز «سوق الثلاثاء» في أعلى التل، متراقصا في السراب الذي تسببت فيه حرارة الجو.
كنا نلهث من شدة الحر ونحن نتمسك بأبواب السيارة، بينما كنا نتفاوض حول اتخاذ مسار، قال الشريف مولاي الصدّيق وهو يهتز إلى أن يضرب رأسه سقف السيارة:
-إن هذا الطريق يجعل عظام مؤخراتنا تخترق رؤوسنا من شدة الاصطدام.
استرحنا قليلا تحت ظلال أشجار الدفلة المنتشرة على طول وادي «سيدي الهادي» حيث خلّف مجرى الماء بعض البرك بين الأشجار. وبعد ذلك أخذنا في الصعود مع «سيدي بوكير»، حيث كانت توجد قبة صغيرة للولي الصالح، حيث دُفن أحد الرجال السبعة لبني عروس. وأخيرا، وبعد طول انتظار، وبعد أن نال منا العطش وجف حلق كل واحد منا، لاح لنا أول منظر جميل لجبل علان، الذي دفن في قمته سيدي عبد السلام، أشهر أسلاف الريسوني. وبدا لنا أيضا توأمه، جبل هاشم الذي يحرس «تازروت». أسفل الجبلين، يظهر لنا آخر مركز أمني إسباني رئيسي، في سوق الخميس، ومخيم الشرطة في سيدي علي. صادفنا بسيارتنا مسارا من الحمير المنهكة على طول الطريق المقابل لنا. في مشهد يمثل المغرب القديم والجديد.