شوف تشوف

الرأي

الإرادة والإدارة كما يراها علي يعتة

 لعله الزعيم التاريخي لحزب «التقدم والاشتراكية» علي يعتة، من تنبه مبكرا لإشكاليات ثنائية المعارضة والغالبية. وعندما اختارت المعارضة رفع سقف مطالبها، إبان مشاورات ما قبل التناوب، اختار يعتة حلا وفاقيا يقوم على أساس إمساك العصا من الوسط. فهو، بحكم انتمائه إلى «الكتلة الديمقراطية»، ساندها إلى ما قبل الخطوة الأخيرة في مطالب التحضير الجيد للمرحلة، وفي الوقت ذاته عارضها في منهجية تفويت الفرصة.
من كان في وارد معرفة المغزى من ذلك الموقف، لاشك سيدرك امتداد رؤيته لسنوات وعقود. وفيما غرد «التقدم والاشتراكية» من العام 1994 في سماء داكنة بحثا عن حليف محتمل أو أكثر للسير معه على الدرب.. لم تعوزه التناقضات المذهبية في أن يضع مسافة أبعد حيال شركائه السياسيين في المعارضة. وما رجال اليوم إلا أطفال الأمس، بمعايير الأعمار والتجارب والوجوه.
على متن القطار القادم من الدار البيضاء إلى الرباط، كان يعتة يراجع أوراقه كما دأب على ذلك باستمرار. فهو خطيب يحسن الرفع من إيقاع صوته واحتجاجاته التي تتموج هادئة ثم تهدر بقوة عند نهاية المصب. لكنه يراعي الدقة ويكتب قبل أن ينطق. فالرجل، الذي لم يتغيب عن جلسات البرلمان، كان فريقا مكتملا، دون الحاجة إلى مكاتب أو سيارات أو امتيازات.. بما فيها تذاكر السفر وحجوزات الفنادق الفخمة.
كان القطار يقطع المسافة التي أقربها الخط المستقيم بين نقطتين. تتملى العيون بالحقول والبنايات التي تتوارى من خلف زجاج النوافذ السميك. هل كان يفكر في أن قطار الزعيم الإصلاحي ميخائيل غورباتشوف سيتوقف بدوره عند خط محدد على طول وعرض التوازنات الاستراتيجية التي قلبت معادلات البديهة؟ أم أنه لاحق المحطات المغربية بعيون السوفياتيين الجدد؟
رحب المغرب بإصلاحات غورباتشوف، إن لم يكن من محاسنها سوى أنها ستقرب المسافات المتباعدة بين موسكو والرباط، حيال تضاريس الأحداث والمواقف، فإن ثمة استحقاقات تفرض نفسها على رجالات السياسة والفكر. وسمع المغاربة خطابا رسميا يناقض نبرة الهجاء التي كانت من نصيب المعارضة على امتداد سنوات وعقود، مضمونه أن البلاد في حاجة إلى كل أبنائها.
سألت علي يعتة عما وراء موقفه الذي شكل بداية تململ داخل أركان «الكتلة الديمقراطية»، فقال إنه يناهض منطق تفويت الفرص، ورأى أن التحول الذي عبرت عنه السلطة السياسية في نطاق الانفتاح على المعارضة، يجب أن يكون منطلقا جديدا في ترسيم الدوائر، مضيفا أنها المرة الأولى التي انتقلت فيها دعوات المعارضة إلى المشاركة في الحكومة إلى مشروع سياسي قائم الذات. واستطرد أن المشكل ليس في تحمل المعارضة مسؤوليات التدبير الحكومي، ولكنه في أساسه يكشف عن وجود فراغ حقيقي في دور المعارضة. ولا يمكن بناء توازن في المواقع عند فراغ أحد أطراف المعادلة.
لا معنى لتوازن مفقود في أي بناء سياسي. العمارات تنهض على أسسها، والعربات تطوي الطرقات بخلفية توازن العجلات الأمامية والخلفية. وقد كتب كبار المحللين والمؤرخين أن أحد مشاكل الأوضاع السياسية في المغرب أنه امتلك معارضة قوية في مواجهة حكومات وغالبيات ضعيفة. وعندما بسط المغرب الخطوط العريضة لإشكاليات سياسية واقتصادية واجتماعية، عبر وصفة تقارير البنك العالمي، بدا واضحا أن الإدارة لا يمكن أن تكون سلطة سياسية، بل أداة في خدمة مشروعات سياسية. وهكذا طرح السؤال: من يعارض من؟
ارتفعت أصوات وعلامات تنادي بالبحث في توصيفات جديدة لمفاهيم اليمين واليسار. وقال الدكتور محمد عابد الجابري إن الخريطة الاجتماعية المغربية «لم يعد يستوعبها اليوم تصنيف اليمين واليسار». أقله أن الأحزاب الحكومية لا تمثل قوى الرأسمال تمثيلا حقيقيا. واليسار لم يعد يمثل جميع من يقعون، بحكم وضعيتهم الاجتماعية، في مواقع اليسار التقليدية. فمن تكون المعارضة إذن؟ وما هي ملامحها ومشروعاتها؟
لا يكشف الزعيم يعتة كل الأوراق، فهو إن بدا متحدثا بلا رقابة، إنما يمنح الانطباع بأنه يقول كل شيء. والحقيقة أنه لا ينطق إلا بما يعتبره عناصر مساعدة في النقاش. فقد كانت نزعته الواقعية أكبر من أن تحدها خطوط. وبسبب أنه كان يجمع بين رصانة الكاتب السياسي والالتزام المذهبي، استطاع أن ينقل تجربة حزبه إلى دائرة الضوء، أقربها أن تكون له مواقفه واجتهاداته دون تبعية أو تهميش، وإن لم يتسن له أن يرى بعضا من مشروعاته تتحقق.
لا يماثل الأعداد الكثيرة من المحاكمات التي وقف فيها علي يعتة أمام القضاء الفرنسي إبان فترة الاحتلال، أو القضاء المغربي في مرحلة بناء الاستقلال، غير قدرته على مواجهة التحديات بروح نضالية عالية. وقال لي نجله ندير يعتة إن السي علي يفكر في الحزب بمنطق الدولة، ويفكر في الدولة بمنطق البناء والمستقبل، يعتبر المعارضة إسهاما وليس ترفا فكريا وإيديولوجيا. ويرى في تحمل المسؤولية الحكومية اختيارا سياسيا، لا يفسده سوى الانتقاص من حرية الإرادة وحرمتها.
لئن كان الصراع يراكم الخبرات والتجارب، فهو في مجال التاريخ السياسي لا ينفصم عن حدود التشابك والتمايز بين الإرادة والإدارة. قال الراحل علي يعتة كلمته عن المقعد الفارغ للمعارضة، وما من شك في أن الأمر ينسحب كذلك على مقعد الغالبية حين تبطل مفعول الإرادة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى