الإخوان المسلمون في الميزان (1/2)
أزعم لنفسي معرفة الإخوان المسلمين جيدا؛ فقد عملت معهم في بداية حياتي، وفي تنظيمهم الداخلي بالذات، وقرأت أدبياتهم جيدا، وتتبعت مسيرة حركتهم وصداماتهم السياسية مع الأنظمة، كما حصل في سوريا مع نظام حافظ الأسد الانقلابي، وأعرف قياداتهم شخصيا في سوريا (مثل سعيد الحوى ومروان حديد) وبعضا من المصريين (الملط ـ زينب الغزالي ـ عبد الحليم أبو شقة) ، لذا أكتب عنهم بدراية ومعرفة، ومن هذه التجربة، لهم وللحركات الإسلامية الأخرى وأهمها (حزب التحرير) والسلفية (شيخهم ناصر الدين الألباني) والمتصوفة، وحركات المشايخ (عبد الوهاب دبس وزيت ـ سعيد البرهاني ـ صالح فرفورـ وإمام جامع القطط الشيخ عبد الرزاق الحمي الذي تعلمت على يديه علم الحديث) كما كان الحال مع الشيخ الرفاعي رحمه الله (مدرسة مسجد الرفاعي) ومنهم أيضا (كفتارو) و(البوطي) الذين آثروا الانضمام إلى وعاظ السلاطين، والدفاع عن الطغاة في وجه الشعوب، واعتماد أسلوب الفقه التقليدي، بأن الحاكم يطاع ولو ضرب ظهور الناس وأخذ أموالهم.
ومن هذه التجربة الخصبة كتبت كتابي (النقد الذاتي ـ ضرورة النقد الذاتي للحركات الإسلامية)، حتى أن البعض ممن يقرأ مقالاتي خاصة تلك التي نشرتها في موقع إيلاف كان يهاجمني بضراوة على أنني إخواني، غافلا عن الصيرورة الإنسانية، وكيف يتطور الإنسان. فأنا رجل مر بمراحل شتى في رحلة تطوره، كما يمر الطفل أطوارا لينضج ويصبح كهلا سويا، بعد أن كان رضيعا لا يعرف كيف ينظف نفسه، وكذلك الحال مع تطور الإنسان وتقلبه بين المراحل. رحلتي مع الإخوان لم تدم طويلا فكل حزب يهمه اصطياد الأتباع أكثر من الترحيب بالناقدين والمراجعين، فهذا هو تركيب الأحزاب خاصة الإيديولوجية منها، فودعتهم بسرعة راحلا إلى محطات فكرية جديدة، في رحلة صيرورة لم تتوقف عن التدفق والتشكل حتى اليوم مع كتابتي هذه الأسطر عنهم.
في القرآن آية جميلة في سورة الروم عن هذا التحول (الآية 54): (الله الذي خلقكم من ضعف، ثم جعل من بعد ضعف قوة، ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة. يخلق ما يشاء وهو العليم القدير).
وممن كان حريصا على مهاجمتي، رجل من منطقة القامشلي كرس نفسه بشكل خاص للأذية وهي متوقعة (لا يستبعد أن يكون من شبيحة الجيش الإلكتروني الأسدي)، من مدينتي التي ولدت فيها في الزاوية الشمالية الشرقية من سوريا، وقد تكون في المستقبل في بطن الدولة الكردية، فبعد كردستان العراق ستولد دولة كردية تمتد في أحشاء أربع دول تجمع تركيا وإيران وسوريا والعراق، كما حصل مع انفطار دولة السودان إلى شمال وجنوب، وحاليا يتقاتل الجنوبيون بين بعضهم بعضا بأكثر من قتال الشمال قبل التصدع والانفلاق الأعظم، على عهد البشير المطلوب من محكمة العدل الدولية، وهذا يقول أن التمزق حين يبدأ فهو مثل الانشطارالذري لا يبقي ولا يذر، إلى حين ولادة الوعي الإنساني، الذي يجمع ولا يفرق كما في كندا، مقابل التشظي في يوغسلافيا، وربما ستلحقها سوريا ومنطقة الشرق الأوسط في فتات هائل كتشظي لوح زجاج ضرب بحجر.
منذ تعرفي على الإخوان، وفي اللحظات الأولى، أدركت أنهم لا يملكون فكرا منهجيا استراتيجيا واضحا، وهو أمر لا أظنه تغير في جوهره. يجتمع الشباب على حفظ بضع آيات من القرآن الكريم، وحديث نبوي، واستعراض فكري لبعض من مفكريهم النادرين، وربما تداولوا فيما ترك لهم الشيخ (حسن البنا) وهولا يشكل زادا منهجيا، ورؤية استراتيجية، وهو معذور نوعا ما بسبب عدم نضجه؛ فالرجل كان شخصية كارزمائية تنظيمية، وخطيبا مفوها، ولكنه ليس بذلك العمق الفكري، وفهم العالم، وأين وصلت الأمور. ولكم تمنيت لو أن نشاطه التحم مع فكر أخيه (جمال البنا) فالأخير قطع أشواطا هامة للوصول إلى الفكر العالمي. ولقد كان لي شرف تقديم كتاب بقلمه كتبته مع جودت سعيد وهشام علي حافظ رحمه الله (فقد المناعة ضد الاستبداد = الأيدز السياسي).
ولذا فقد قام سيد قطب رحمه الله بسد هذه الثغرة في كتاباته، وليته لم يفعل (تأمل كتابه عن السلام العالمي، وأين وصل في كتابه معالم على الطريق)، لأنه فكر منغلق غير متصل بالفكر العالمي وتطورات الفلسفة الإنسانية. (من أقواله: ليس ثمة حضارة على وجه الأرض غير الحضارة الإسلامية).
والخطير هو ربط هذه المفاهيم مع القرآن؛ فأخذت طابع القدسية فلا تناقش؛ فهي في (ظلال القرآن) وهل يمكن لأحد مغادرة هذه الظلال إلى الجاهية والحرور؟ أكملتها حفلة إعدامه (وكانت غلطة من عبد الناصر) فأخذ اسم الشهيد، وهل يخطئ الشهيد؟ فخدمه عبد الناصر من حيث أراد إعدام أفكاره، فراجت كتبه أكثر، وتعممت مفاهيمه وتعمقت بأشد من النار في غابة جافة في فصل صيف قائظ تضربها رياح مجنونة، فلم يبق بيت إلا وعنده تفسير الظلال. حتى وصلت مفاهيمه (تورابورا) في مفهوم القاعدة الصلبة التي حملها الظواهري إلى هناك، حتى كملت رحلتها بالارتطام ببرجي نيويورك وانهدام العالم، وما يحدث في مذابح الشرق الأوسط الحالية فصل متواضع من كتاب المعالم.
وحسب معرفتي فلم يستنفر أحد أو (لجنة) لوضع أفكاره على محك الدراسة المعمقة، مع التعليقات الذكية المنهجية لتصحيح مسار الفكر الإسلامي الراهن، كما يحصل حاليا مع كتاب (كفاحي) لهتلر، الذي ينشر بعد تسعين سنة من تأليف صاحبه له في السجن (أدولف هتلر : 1924 ـ 1925)، وسبعين سنة من تجريمه وتحريم طباعته بعد سقوط الرايخ الثالث مع هزيمة ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية عام 1945م. ويظهر الكتاب حاليا بنسخة من (1948) صفحة مع (3500) تعليق هام وذكي على الكتاب (راجع مجلة دير شبيجل الألمانية ـ العدد 2 /تاريخ 9/01 / 2016م الصفحة 106).