الأيقونة شيرين أبو عاقلة
خالد فتحي
لماذا قدرنا دوما أن لا نتعرف على الأيقونة إلا بعد أن تغادرنا إلى دار البقاء؟ لماذا يكتب علينا أيضا أن نرثي البطولة والأبطال، عوض أن نحتفي بها وبهم.. فنعود مرارا ومرارا إلى هذه اللغة المهزومة التي صرنا نتأسى بها، ونخصصها لغير ما نذرت له: استيعاب خذلاننا، واجترار خيبتنا أمام أنفسنا وبين الأمم؟
لقد كانت شيرين أبو عاقلة، هنا في بيوتنا، وأمام ناظرنا جميعا، تنقل التقارير عن كل حادث بالقدس وفلسطين المحتلة، وكنا قد أصبحنا نستمع إليها دون كبير اكتراث لها، بعد أن طال الاحتلال، وتعودنا نحن على نبرتها، وصوتها، وتعابيرها.
هل كنا نعتبرها أقوى من الموت، وأمنع من أن تموت؟ أم كنا نرى في سترة الصحافة درعا ضد الهمجية والوحشية وضد الاغتيال؟ أم أننا كنا أسذج من أن نتساءل مثل هذه الأسئلة؟ فدائما وعينا بعدي، ودائما ما تأتي حسرتنا متأخرة، بعد أن تقع الواقعة ويقطفون الزهرة.
شيرين، أيتها الغصة في الحلق، أيتها الشهيدة بحق، هل مت حقا، أم قد كتبت لك حياة جديدة تحيينها اليوم في وجدان كل عربي، وكل مسلم، وكل إنسان مكافح من أجل الحرية والسلام؟
لم نكن نركز كثيرا عليك، كنا نعتبرك صحفية متألقة كالآخرين والأخريات، وفاتنا أن نلتفت إلى كل ذاك الإباء والنخوة والشموخ والكبرياء والنجدة التي كانت تعلو وجهك الصبوح، حتى رزئنا فيك، ولا إلى كل ذاك الإصرار والعنفوان اللذين كانا يشعان من عينيك، لقد كنا فقط ننغمس في ما تغطينه من اعتداءات وحشية وتقتيل بربري، وأنت تتقدمين بخطواتك الواثقة نحو العدسة، وتختمين دائما مراسلتك بشيرين أبو عاقلة القدس المحتلة، كأنك لا تملين من تذكير الأمة بأن ليس عليها أن تستكين، وأن هناك مهاما عظيمة بانتظارها، وأولها استخلاص القدس الحبيبة من بين أيدي وبراثن المغتصبين.
وحين غبت فجأة ذات صباح، وقد كان هذا دائما أمرا واردا، بل وممكنا جدا، نظرا لطبيعة عملك الذي كان يجعلك ترافقين الموت كل يوم وكل تغطية، استفقنا آنذاك من غفوتنا أو بالأحرى انتبهنا من نومنا، من غفلتنا التي لم تكن لتتركنا نميز الدرة التي بيننا، حتى نكرمها في حياتها قبل مماتها، وكأننا نتعرف الآن للوهلة الأولى على شيرين أبو عاقلة.
فهل كان ضروريا هذا الغياب، هذه الملحمة في الاستشهاد حتى نحس بكل ما قدمتيه، بالجرأة والبسالة وحب الأمة الذي كنت تصدرين عنه في كفاحك ولا أقول عملك؟ الآن فقط نصخي السمع لكل كلمة قد قالتها أبو عاقلة، ونقرأ بين الكلمات معان مرت علينا، ونكتشف أنها كانت تضج بالحقيقة والصدق والوفاء للقضية، ونفهم أن شيرين لم تكن مجرد صحفية، بل كانت صوتا لفلسطين، وللمظلومين والمقهورين والمنسيين من طرف العالم.
الآن فقط نتعرف على مقدار الرزء، ومبلغ الفداحة، أن يخبو هذا الضوء الذي كنت تمثلين في خضم هذه العتمة التي ترخي سدولها على كل عالمنا العربي، وأن يكتم صوتك بلعلعة الرصاص الجبان، الذي يستهدف صحفية مقدامة شجاعة تواجه الاحتلال الغاشم بكاميرا وميكروفون وشال فلسطيني وجمل مقتضبة تلخص كل الحكاية، حكاية عالم ظالم يصر على أن يصم أذنيه عن صراخ شعب أذاقوه كل صنوف الامتهان والانتهاك لحقوقه.
استشهادك يعري العالم… يفضح الإنسان فينا، الذي عليه أن يخجل من كل الشعارات المرفوعة، ومن كذبة حقوق الإنسان، من تنكره لأطفال فلسطين، من نفاقه وعنصريته. شيرين التي وضعت باستشهادها وجه العالم أمام المرآة ليرى كم هو قبيح وعنصري وتافه، حين يترك دماء الفلسطينيين تنزف دون أن يحرك ساكنا. حين يفرق بين دم ودم، وروح هنا وأخرى هناك، وبين موت بالجنوب وموت بالشمال، شيرين التي وحدت المسلمين والمسيحيين حول القضية، قضية الأرض، قد وجهت باستشهادها رصاصة في نحر الانقسام، وروت بدمها هذه اللحمة مرة أخرى، وفدت بروحها فلسطين، ستتحول ولا شك إلى رمز للمقاومة، إلى نجمة في الأعالي تزور القدس كل ليلة، لتنير الدرب لكل الصامدين والمرابطين، إنها أفق جديد ستكد من أجله الأجيال القادمة.
ولذلك أقول: لقد نزعت شيرين ورقة التوت عن الاحتلال حية وحية، لأني لا أراها قد ماتت، كيف تموت وقد كسرت إرادة المحتل بإصرارها على الاستشهاد، حين أراد هو أن يكسر إرادتها وإرادتنا. هي لوثة العار في جبين إسرائيل، ووخز ضمير للإنسانية جمعاء.
هي العهد المضمخ بالوفاء والتضحية على الصمود والنضال، إلى حين تحرير القدس وفلسطين.
نافذة:
شيرين التي وحدت المسلمين والمسيحيين حول القضية قضية الأرض قد وجهت باستشهادها رصاصة في نحر الانقسام وروت بدمها هذه اللحمة مرة أخرى وفدت بروحها فلسطين