الأموات يقرؤون
حسن البصري
كل صباح تتوجه بنت المرحوم الدكتور محمد طلال إلى مقبرة الشهداء بالدار البيضاء، تسير بخطى متثاقلة وسط القبور الصامتة وهي تتأبط جريدة «الأخبار»، تجلس القرفصاء أمام قبر فقيد الصحافة الوطنية ومعلم الأجيال، تفتح الجريدة وتشرع في قراءة عمود الصفحة الأخيرة.
كانت تعرف أن والدها الراقد تحت التراب كان مدمنا على الأعمدة، يجد متعة في احتسائها مع قهوة الصباح، حتى في آخر أيامه حضرت الجريدة في فراش المرض وكأنها جزء من أكوام الدواء التي وصفها الأطباء.
كانت القارئة تصادر دموعها تشعر وكأن والدها يتمدد على فراش المرض وليس في جوف قبر، وحين تنتهي من القراءة تصر على وضع الجريدة على يساره كما كان يفعل قيد حياته، وتضع عليها حجرة كي لا تحملها الرياح نحو قبر آخر.
حين تنسحب بنت الراحل طلال وترسل نظرة وداع إلى شاهد قبر والدها، تشعر وكأنه يذكرها بإطلالة أخرى في يوم آخر وفي يدها عدد آخر من الصحيفة. في هذا المكان المقفر تحضر القراءة وتنزل الحروف والكلمات إلى جوف القبر. ما أسعد هؤلاء الموتى المصطفين إلى جوارك، إنهم ينعمون بالقراءة، هؤلاء الذين ماتوا ودفنوا من قبل، وعندما سمعوا وقع الفؤوس وعلموا أن حفاري القبور هيؤوا لك قبرا بجوارهم أرادوا أن يتعرفوا عليك ويعرفوا قصتك. وحين انسحبت البنت الثكلى طاف قراء يتلون على مسامعك ما تيسر من كتاب الله.
كان الفقيد حريصا قيد حياته على قراءة الصحف والمجلات، وغالبا ما يقرأ العناوين الرئيسية قبل أن يبتلع جرعة دواء. كان يعتقد أن الأطباء لا يستطيعون منعه من القراءة بنهم، لا يقدرون على وضع ريجيم القراءة مهما بلغت شهية الإدمان على التهام الحروف، فقد لازمته المطالعة وخفة الروح حتى آخر أيامه، وكان يشعر بالغضب حين ينصحه زائر بتأجيل القراءة.
حين ينتهي من القراءة يحاور نفسه وكأنه يعاتب الكاتب، ويمضي إلى حد الغاضب الساطع حين يتعرض التاريخ السياسي لحملة تشطيب، كان يردد بقلق: «إنهم يشطبون تاريخنا، كل من يأتي يشطب تاريخ من سبقه حتى صرنا بلا تاريخ».
كل أفراد أسرة طلال يتنفسون هواء الإعلام، لا حديث حول موائد الأكل إلا عن آخر المستجدات، وعن أب مدمن جرائد، كان الله في عون الزوجة التي تتأفف من أكوام الصحف منتهية الصلاحية، حتى حين خانته عيناه ظل مصرا على القراءة بالاستعانة بنظارته الطبية.
أتذكر أنني كنت أسير رفقته في شارع رحال المسكيني، كانت خطواته متثاقلة لكنه كان يتوقف قرب أكشاك بيع الصحف وتبين لي أنه يضعف أمام العناوين يسترق النظر ثم يعلق ويواصل المسير، حين يعود من سفر خارجي تأخذ الجرائد والمجلات لنفسها مكانا في حقائب السفر.
ليس الراحل طلال هو الذي يواصل القراءة ملفوفا في كفنه، فقد حدثني ابن مقاوم مغربي عن سعي أبيه بين البيت ومقبرة الشهداء لقراءة بيانات المقاومة خلسة أمام قبر الشهيد محمد الزرقطوني، وحين تبين له أن العلم المنتصب فوق القبر قد تغير لونه من فرط التقلبات المناخية استبدله، قبل أن يضرب موعدا آخر مع صديقه المقاوم، حتى بعد الاستقلال ظل الفقيد ينصت كل أسبوع لزائره يصغي لمستجدات مغرب آخر، إلى أن تعطلت خطواته وامتطى كرسيا متحركا.
غير بعيد عن قبر طلال يوجد قبر سهام بنت عمر السيد، التي أعاد والدها دفنها من جديد، رغم مرور خمس سنوات على دفنها، اختار الغيواني وضعها في قبر آخر قريبا من الطريق المعبدة حتى تسهل زيارتها، حرص على وضع وسادتها الحمراء تحت رأسها لتتكئ عليها. قال عمر وهو يخاطب ابنته: «سامحيني لأنني تأخرت في تغيير وسادتك».
فليكتمل تواطؤنا في الوفاء لموتى يحسنون الإصغاء.