الأموات يغرقون
حسن البصري
من المحزن حقا أنه حتى الأموات لم يعودوا يأمنون شر العبث برفاتهم. من المؤلم أن تذهب سيول الأمطار إلى مقبرة الغفران وتعتدي على حرمة باحة الاستراحة الحقيقية لبني البشر. فقد كان من الصعب متابعة مشاهد قبور ابتلعتها التربة وأخرى بدون شاهد. هرع أهالي الموتى إلى المقبرة وشرعوا في انتشال رفات المراحيم وصيانة قبور أغرقتها الفيضانات في مشهد ممنوع على كبار السن.
قال عمر وهو يروي محنة أموات ماتوا مرة واحدة ولكنهم دفنوا مرتين، «لقد كان من الصعب العثور على قبر ابني بعد أن انجرفت التربة، مات ابني غرقا في البحر وغرق في المقبرة أيضا». استجمع عمر معنوياته وصادر دموعه وظل يبحث عن خطاط يعيد كتابة كلمات على شاهد قبر عجز عن الصمود أمام عاديات المطر.
طالبت أرملة أحد الأموات من المكلومين التظلم عند ناظر مقبرة الغفران، ومتابعة كتاب الشواهد وحفاري القبور، فقد بدا وكأن العبارات قد كتبت بأيدي الأموات في غفلة من الجميع، ودون الخوف من الملاحقة ظهرت إرهاصات حركة احتجاجية في مكان يتعفف المحققون عن دخوله للبحث عن الجناة حتى ولو كانوا يملكون ترخيصا من الوكيل العام.
بالأمس كانت مقاربة القرب حاضرة في تدبير شأن الأموات، حيث كانت مدينة الدار البيضاء تتوفر على عدد كبير من فضاءات الدفن الموزعة على أحياء العاصمة الاقتصادية، فاق عددها عشرة مدافن أغلبها أغلق أبوابه بعد أن فاق الطاقة الاستيعابية للدفن وضاقت المساحات بالأموات، ولم تسلم الممرات «المزفتة» من استقبال جثامين موتى مدعمين بتوصية مسؤول.
بالأمس كان لكل حي مدفنه، فموتى المدينة القديمة يشيعون في مقبرة أهل فاس غير بعيد عن لهجاجمة بحي بوركون، ومقبرة مسعود الرويضي وهي قطعة أرضية وهبها المرحوم الرويضي لبلدية الدار البيضاء من أجل دفن أموات وسط المدينة على مقربة من ملعب فيليب، ولأبناء درب السلطان ملاذهم الأخير في مقبرة أولاد زيان المجاورة لمقبرة اليهود والمسيحيين، ومقبرة الشهداء في ما يشبه «حي المقابر»، ناهيك عن مقبرة سيدي مومن ومقبرة القاعدة العسكرية بشارع عمر بن الخطاب، ومقبرة الشهداء بشارع الحزام الكبير، ومقبرة سيدي عثمان قرب ضريح هذا الولي، ومقبرة حي سباتة بشارع الجولان، ومقبرة عين حرودة ومقبرة سيدي أحمد بلحسن بمديونة وكل هذه المرافق أغلقت بالتقادم أو التجاهل بينما ظلت مقبرتا الرحمة والغفران تستقبلان الأموات ومع كل يوم تضيق مساحة الدفن ويصبح القائمون على شأن المدينة في مأزق، علما أن القبر هو المأزق الوحيد الذي لم يتمكن أحد حتى الآن أن يخرج منه. لحسن الحظ أنه لا أحد يحكم من القبر، وإلا ستعلن حالة طوارئ في مقبرة الغفران بسبب غضبة موتى استثنائيين.
نصح أحد أبناء ميت نجا من سيول المقبرة، الحاضرين باقتناء قبور سياحية، قال إنها غير مكلفة لكنها لا تعفي أحدا من أهوال القبور، بدا وكأن الولد يروج لتجارة الأموات ويدعو الناس لحجز قبر «سنكل» في بقعة محروسة، لكن لا أحد يهتم بما بعد الموت، حتى المنتخبون لا يضعون في برامجهم الانتخابية مصير الموتى وأزمة مقابر تضيق بالوافدين عليها. هل سمعتم عن مرشح أعلن عزمه على إنشاء مقبرة جديدة؟، سيكون من العبث ألا يهتم السياسيون بالمدافن ونسبة من المصوتين هم من الموتى، فيما يرى الضالعون في السياسة أنها مغامرة محفوفة بالمقابر.
تتقلص مساحات الدفن في الدار البيضاء يوما عن يوم، وأضحى التفكير في مآل موتى الغد أمرا استعجاليا، رغم أنه لا تدري نفس بأي أرض تموت. لكن لماذا لا تقترب السيول الجارفة من مقابر المسيحيين واليهود وتترك الراقدين تحت تربتها ينعمون بالاستراحة الأبدية؟
فيضانات مقبرة الغفران دعوة للتفكير في مسكن أبدي هادئ للميت؟ أليس للمواطن الحق في امتلاك قبر «اقتصادي»؟ أما آن الأوان لنجعل إكرام الميت دفنه ورعايته أيضا؟