شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

الأمريكيون والفرنسيون و«البارات» الأولى بالمغرب 

«الماحيا» أو أساليب المغاربة القدامى بحثا عن «السُّكْر»

«مدينة القنيطرة التي تشهد نواحيها هذه الأيام حالة إنسانية أليمة، تتمثل في إصابة متعاطين للخمور محلية الصنع بتسمم جراء استهلاك خمور فاسدة، تبقى واحدة من أقدم المناطق المغربية التي شهدت معارك احتكاك في نفوذ توزيع الخمور الفرنسية والخمور الأمريكية المهربة، بعد إنشاء القاعدة العسكرية الأمريكية، عقب إنزال 1943 في الشواطئ المغربية.

الدار البيضاء، عرفت وجود الحانات والخمارات الفرنسية التي كانت تبيع منتجات كحولية مصنعة إما في المغرب، أو قادمة إليه من ميناء الدار البيضاء. بينما تبقى طنجة أول مدينة مغربية أقيمت فيها الحانات، التي كانت في البداية ملحقة بالفنادق التي أقيمت في المدينة الدولية، لاستقبال السياح والموظفين الأجانب القادمين إلى المغرب.

مرت تجارة وصناعة الخمور في المغرب بعدد من المحطات. وبعد أن كان إنتاج «الماحيا» قبل قرون، الوسيلة الوحيدة للباحثين عن «السُكر» لاستهلاك الخمور، تحولت صناعة الخمور في المغرب إلى مجال أوسع مع بداية انتشار مزارع العنب والكروم في نواحي مكناس منذ 1914.. وهذه بداية القصة».

 

يونس جنوحي :

 

+++++++++++++++++++++++++++

 

حانات الفرنسيين التي جرّت غضب المغاربة

من بين أحياء الدار البيضاء التي وثق الباحثون جيدا تاريخها، نجد الحي المحمدي، حيث تألق الباحث المغربي د. نجيب تقي، في بحثه «جوانب من ذاكرة كريان سنطرال»، في استحضار جوانب مظلمة من تاريخ الحي، خلال فترة الحماية الفرنسية.

ومن جملة ما يمكن الخروج به من خلاصات بعد الاطلاع على هذا البحث الموسع الذي صدر قبل سنوات، أن الحانات لعبت دورا كبيرا في أحداث الدار البيضاء، خلال فترة الحماية الفرنسية إلى حدود سنة 1955.

سوف نرى في هذا الملف بدايات الحانات الأولى في المغرب، لكن ما يهمنا عندما يتعلق الأمر بانطلاق أحداث المقاومة، علاقة هؤلاء المقاومين والعمليات التي نفذوها بالحانات والخمارات المملوكة للفرنسيين، والتي كانت دائما مقرا للمخبرين والضباط الفرنسيين الذين اشتغلوا في المغرب على تطويق المقاومة وتفكيك الخلايا السرية.

يقول نجيب تقي نقلا على لسان أحد من عاشوا تلك الأحداث، ما يؤكد أن الحانات كانت تعج بالمخبرين، وأنها شهدت عمليات اعتقال للمقاومين: «روى لنا روشدي العياشي بن عبد القادر قصة اعتقاله، كما يلي: تقدم إلى باب الحانة شرطيان سريان فرنسيان وآخر مغربي، بعد وقوف سيارة «ستافيط»، فاستفسروا الحسين «لوبير» عن العامل العياشي «الموتشو». وبعدما تعرفوا علي (…) طلبوا مني رفع يدي إلى السماء مشهرين السلاح في وجهي، ثم فتشوني علهم يجدون وسائل إثبات، ثم ألبسوني جلباب الگوم المخطط وغطوا رأسي بقبه ووضعوا الأصفاد على اليدين وأركبوني السيارة، فإذا بي أجد فيها صالح الطويل (من مجموعة العربي بوكلب)، الذي اقتيد من أجل دل رجال الشرطة السرية على مكان عملي، لأنه سبق أن دعوته وآخرين لتناول الفطور فيه. فتمت مقابلتنا بسرعة داخل السيارة، وتعرف كل واحد منا على الآخر».

ينتقل نجيب تقي إلى الحديث عن الحوادث التي استهدف فيها المقاومون بعض الحانات والخمارات، ومظاهر انتشار المشروبات الكحولية في محلات الدار البيضاء على وجه الخصوص. إذ جاء في فقرة من هذا البحث، ما يلي: «ومن تلك الحوادث إحراق الشاحنة الجرارة المعروف في ذاكرة سكان الحي المحمدي باسم «حريگ لا فوار»، ليلة الأحد 7 دجنبر 1952، وهي عملية تجمع الروايات على دور الحسين «بوصبيعات» فيها، وهو ما تؤكده التقارير الصحافية المنشورة عن محاكمة المتورطين فيها، وترد أسماء كثير من وطنيي كريان سنطرال في هذا الشأن، سواء في الروايات المحفوظة في ملفاتهم بالمندوبية السامية، أو من خلال مقابلاتنا معهم، أو مع أقاربهم وأصدقائهم وملازميهم، ومنهم، على سبيل المثال لا الحصر، محمد «الموتشو» ومبارك بن موسى وأخوه فاتح وأحمد بن الحاج ومولاي حماد بن لحسن ومحمد بن العربي الگزار وبنعيسى الدكالي وبلحسن المسيوي وامحمد النجار وميلود ومحمد بن عبد الله (أخو «بوصبيعات») وعلال العبدي «بولقرود» ومحمد بن المير ولحسن بن علي وكريم .. لكن الوقائع المنشورة عن العملية، ومن خلال التغطيات الصحافية للمحاكمة الخاصة بها، لا تتضمن إلا الأشخاص الأربعة الواردة أسماؤهم في الجدول، مما جعلنا نسعى إلى تسليط الأضواء عليهم من خلال تحرياتنا، فلم نتعرف إلا على الحسين «بوصبيعات»، وهو اسم معروف في الحي المحمدي. ووضعنا، في لحظة ما، فرضية مشاركة اليهوديين المذكورين في الجدول في إطار العمل الوطني، ولجأنا إلى بعض العارفين بموضوع مشاركة الطائفة اليهودية المغربية في الحركة الوطنية، لكن دون جدوى، مما جعلنا لا نستبعد أن من وراء هذه العملية التي لا يخفي كثير من وطنيي الحي المحمدي ومقاوميه طابعها الوطني الممزوج بضرورة محاربة «ما أدخله أذناب الاستعمار إلى لا فوار من الخمر والميسر («السويرتي» المعروف باسم «بالابولا» في الذاكرة الشعبية)، خلافا وصراعا بين موروMoreau ، صاحب الشاحنة الجرارة المحرقة، وبين محمد بن علي زميله الذي كان يحترف نفس الحرفة، وهو ما يؤكده ما نشر في صحافة الفترة من تقارير عن سير هذه القضية في المحكمة العسكرية الدائمة».

 

 

عندما غمرت خمور القاعدة الأمريكية مدينة القنيطرة

في سنة 1943، عرف شاطئ الدار البيضاء إنزال القوات العسكرية الأمريكية المشاركة في الحرب العالمية الثانية. وفي أقل من سنة، استكمل الأمريكيون بناء القاعدة العسكرية في القنيطرة، «بور ليوطي» وقتها، وبدأ المغاربة يتآلفون مع مظاهر انتشار الجنود الأمريكيين، الذين كانوا يختلفون تماما عن الجنود الفرنسيين، في شوارع الرباط، خصوصا خلال نهايات الأسبوع.

وجود هؤلاء الأمريكيين في المغرب سنة 1944، صاحبه نقل لمظاهر الحياة الأمريكية إلى داخل مقر القاعدة العسكرية، ومحيطها أيضا. إذ إن سكان المدينة سرعان ما تعرفوا على الحياة ومظاهر العيش الأمريكية، وتأثروا بها كثيرا.

ومن بين أول مظاهر الوجود الأمريكي في المدينة، انتشار الحانات الأمريكية التي كانت تختلف جذريا في طرازها وفضاءاتها عن الحانات الفرنسية والإسبانية، التي سبق للمغاربة أن تعرفوا عليها في كل من الدار البيضاء والرباط.

ومع منتصف أربعينيات القرن الماضي، كانت الحانات الأمريكية تعج بمرتاديها من المغاربة والأجانب، دون رقابة من السلطات الفرنسية، بحكم أن الحانات الأمريكية لم تكن تابعة لها.

الخمور المحلية، التي كانت تصنع بطريقة تقليدية، خصوصا الماحيا المحلية، طغت عليها الخمور الأمريكية المهربة من القاعدة العسكرية الأمريكية.

إذ إن بعض الجنود الأمريكيين الذين كانوا يطمحون إلى تحسين دخلهم الشهري، تعاطوا للاتجار في سلع القاعدة العسكرية، وتهريبها سرا إلى خارج القاعدة عن طريق الشاحنات التي كانت تربط بين مخازن القاعدة وميناء الدار البيضاء والقنيطرة، وبيعها إلى بعض الوسطاء الذين كانوا يتولون ترويجها في محيط الدار البيضاء والقنيطرة على السواء.

وهكذا فإن انتشار الخمور الأمريكية، في بداية الخمسينيات، كان يفوق كل التوقعات، وتضررت الحانات الفرنسية كثيرا بسبب هذا الانتشار. أما المروجون المغاربة الذين كانوا يبحثون عن «السُكر» بالطرق المحلية، فقد استبدلوا «الماحيا» محلية الصنع، بالخمور الأمريكية المهربة من القاعدة، والتي كانت تتوفر بكميات ضخمة في السوق السوداء.

ما كان يهم الأمريكيين، ومعهم الأمنيون الفرنسيون، أن يوضع حد لتهريب الأسلحة الأمريكية من القاعدة، أما الخمور فلم تكن من أولويات هؤلاء الأمنيين.

سُجلت حالات تهريب للأسلحة من القاعدة الأمريكية، باعها موظفون أمريكيون من داخل القاعدة إلى بعض التجار المغاربة الذين كانوا على علاقة بالخلايا السرية للمقاومة سنة 1953. وقد اعترف مقاومون مغاربة لاحقا بهذا الأمر، وأكدوا أنهم حصلوا على مسدسات وبنادق من أمريكيين في قاعدة القنيطرة، مقابل مبالغ مالية.

أما مسألة تهريب الخمور الأمريكية فقد كان يتكلف بها وسطاء من نوع آخر، بينهم سجناء سابقون في سجون الإدارة الفرنسية كانوا يتعاطون لتجارة الخمور وصناعة الخمور المحلية، ولم يتوقفوا عن مزاولة هذه الأنشطة، رغم تهديد الوطنيين لهم بتصفيتهم جسديا إن هم لم يتوقفوا عن تصنيع الخمور وترويجها بين المغاربة المسلمين.

 

++++++++++++++++++++++++++

 

هذه أولى «البارات» التي أنشئت في المُدن

طنجة أول مدينة مغربية أنشئت فيها الحانات، لكن قوانين ولوجها كانت تعرف نوعا كبيرا من الصرامة والتضييق في تطبيق شروطها، ولم يكن مسموحا نهائيا للمغاربة بولوجها. وحسب بعض الدراسات التاريخية، فإن أوائل الحانات التي أقيمت في طنجة، كانت تعود ملكيتها إلى الفنادق المخصصة لاستقبال الأوروبيين والأمريكيين الذين كانوا يتوافدون على المدينة بكثرة منذ 1880.

استهلاك الخمور المستوردة من ميناء طنجة، بعيدا عن أعين الجمارك المغربية التي كانت تتشدد في السماح للأجانب بإدخال الخمور إلى طنجة، داخل الفنادق والخمارات المرخص بإقامتها، كان حكرا على الأجانب إلى حدود بداية القرن التاسع عشر.

جدير بالذكر أيضا أن السلطات المغربية لم يكن مخولا لها منح تصاريح إنشاء الخمارات في طنجة الدولية، بل كان الأمر موكلا إلى المجلس المكون من الجنسيات التي تُسير طنجة الدولية، وهم الفرنسيون والإنجليز والإسبان، الإيطاليون والألمان.

بعد ذلك انتقل إنشاء الخمارات والحانات إلى الدار البيضاء، هناك بعض المصادر التاريخية التي تؤكد أن الدار البيضاء أقيمت بها أول خمارة قبل سنة 1907، وكان يملكها مواطن إسباني. لكن القصف الذي تعرضت له المدينة في تلك السنة، دمر الكثير من المباني. ليعود نشاط إقامة الخمارات والفنادق الفرنسية بقوة، بعد انطلاق أشغال إعادة بناء المدينة وإقامة ميناء الدار البيضاء.

فرض معاهدة الحماية سنة 1912، تزامن مع أشغال إعادة بناء الدار البيضاء وإقامة الحي الأوروبي، وإنشاء الفنادق ومركز المدينة وإدارات الإقامة العامة الفرنسية.

لعب ميناء الدار البيضاء دورا كبيرا في استقبال الواردات من الخمور الفرنسية، التي كانت تزود الحانات بمخزون المشروبات الكحولية، وتشددت الإدارة الفرنسية في شروط ولوج المغاربة إلى هذه الحانات. وذلك لأسباب أمنية، مخافة أن يتعرض الرعايا الفرنسيون في المغرب لاعتداء على يد المغاربة، الذين كانوا رافضين لواقع إقامة الخمارات في قلب المدينة.

وبما أن الإقامة العامة الفرنسية كانت تضع القوانين، فقد سُمح لبعض الأعيان المغاربة بولوج هذه الحانات، وهكذا فإن أثرياء الدار البيضاء كانوا أوائل المغاربة الذين ولوجوا أولى الحانات التي كانت مُلحقة بالفنادق الفرنسية الفخمة في كل من الدار البيضاء والرباط أيضا.

وبما أن الفرنسيين أقاموا ميناء «ليوطي»، والذي سوف تحمل المنطقة التي أنشئ فيها لاحقا اسم مدينة القنيطرة، فإنه كان من الضروري إقامة حانات لكي يروح فيها المعمرون الفرنسيون، والذين كانوا في أغلبهم من عمال الشركات والمصانع الفرنسية التي أنشأت هناك قبل سنة 1920، عن أنفسهم.

لكن الإنزال الأمريكي في المدينة سنة 1943، وإقامة القاعدة الأمريكية الأولى في شمال إفريقيا لإيواء آلاف جنود القوات العسكرية الفرنسية المشاركين في الحرب العالمية الثانية، غيّر ملامح القنيطرة جذريا، وفُتحت في المدينة حانات جديدة على الطراز الأمريكي، لتوفير مناطق للترفيه عن جنود القاعدة الأمريكية.

تضررت الشركات الفرنسية كثيرا بسبب ترويج الخمور الأمريكية، سيما وأن المغاربة الذين بدؤوا في استهلاك الخمور، كانوا يحصلون على الخمور الأمريكية بأسعار زهيدة جدا من الجنود الأمريكيين، بالإضافة أيضا إلى السجائر الأمريكية. وهو ما جعل الخمور الأمريكية تقتحم فضاء الدار البيضاء والرباط أيضا، وبدأ استهلاكها في المغرب «خارج القانون»، بحكم أن الخمور الفرنسية، أو التي يُنتجها الفرنسيون في المغرب كانت الوحيدة المرخص بترويجها بصورة قانونية.

 

عندما تحدث القنصل الأمريكي سنة 1909 عن عقوبة استهلاك المغاربة للخمور

يتعلق الأمر هنا بمذكرات القنصل الأمريكي السيد هولت، والذي اشتغل في طنجة ممثلا لبلاده في المدينة الدولية، إلى حدود سنة 1909. وقد عنون هذا الأخير مذكراته التي نشرها، بعد انتهاء وظيفته الدبلوماسية وعودته إلى نيويورك، بداية القرن العشرين، كالآتي: «أرض الغروب العجيب». ونُترجم هنا مقطعا مثيرا يتحدث فيه القنصل الأمريكي عن تجربة محاكمة وسجن رجل مغربي، بسبب استهلاكه الخمور التي كانت تروج في المدينة، بسبب إقامة الفنادق والحانات المملوكة للأجانب.

يقول: «لم أستطع فهم انطباعات الموظفين المغاربة، ولا تقديرهم للأمور، لذلك فضلت أن أحضر المحاكمة بنفسي. وبالتالي، فقد سمعت أطوارها في قاعة المحكمة. وزير الحرب، والمسؤول عن الشؤون الخارجية يزكيان التهمة ضد الأمريكي، عن طريق أحد عبيدهم، واسمه علي.

كانت الجلسة مفتوحة. وسمعت التهم، وتم استدعاء 20 شاهدا من بين شهود القضية. عشرة من هؤلاء الشهود أقسموا أن علي محمد كان سكرانا ولم يكن واعيا بتصرفاته، والعشرة الآخرون أقسموا أنه فقط كان غاضبا.

المثير في القضية أن المحكمة هي التي أحضرت العشرة الذين أقسموا أن عليا لم يكن سكرانا، بينما أحضر علي نفسه أصدقاءه، لكي يشهدوا أنه كان في وضعية غير طبيعية قبل اعتقاله.

قد يبدو هذا الأمر غريبا لكم، لقد بدا لي أيضا كذلك. لكن هناك قوانين في الكتاب المقدس عند المغاربة، تنص على أن الإنسان لا يمكن أن يُحاسب على تصرفاته إن كان تحت تأثير الكحول. والقضاة المغاربة فضلوا أن يأتوا بالشهود على أن عليا لم يكن سكرانا أصلا، وذلك حتى يستطيعوا إنزال عقاب شديد عليه وتعذيبه، لأنه سب السلطان وسب الله.

علي كان يحاول تبرير تصرفه بتحمل أخف العقوبات، وهي تعاطي الخمر، وتسقط عنه تهمة سب المقدسات.

لم أستوعب أن يأتي عشرة من الرجال لكي يشهدوا أن عليا لم يكن سكرانا، بينما عشرة من أصدقائه، بينهم أمريكيان قطعا معه البحر من جبل طارق وجاءا معه إلى المغرب في اليوم نفسه الذي ارتكب فيه المخالفة، وشهدا مثلما شهد المغاربة أن عليا كان في وضع غير طبيعي، وفي حالة لم يكن ممكنا له فيها أن يتعرف على والده.

لقد كان الأمر سرياليا ومضحكا. حُكم على علي محمد بستين يوما في السجن المحلي، يوما واحدا فقط بعد إطلاق سراحه، عاد لنفس الفعل والإساءات.

في هذه المرة، جاؤوا به إليّ، وحاول أن يسلم عليَّ وفقد توازنه. لقد بدا لي بالواضح أن تهمته ثابتة. مرة أخرى، ذهب إلى السجن لستين يوما.

كان أمره محيرا، وشدني الفضول تجاهه. وبقيت أتابع حالته، وفي اليوم الذي أطلق فيه سراحه طلبت أن يأتوا به إليّ، لأتحدث معه فور إطلاق سراحه.

قلت له: -علي. لقد طلبت منهم أن يأتوا بك إليّ هنا لكي أحذرك. في المرة المقبلة قد يحكمون عليك بفترة سجن أطول وغيرت نبرة صوتي لتبدو أكثر جدية، رغبة في أن تؤثر فيه».

 

تقرير فرنسي تنبأ سنة 1914 بمستقبل واعد لفلاحة الكروم

«تخيلوا مقدار الأرباح التي يمكن جنيها في أقل من عشر سنوات، إن نحن نقلنا مزارع الكروم والتخزين والتخمير إلى المغرب». بهذه الكلمات، خاطب المراقب المدني الحاضرين في اجتماع مع المعمرين الفرنسيين في فاس سنة 1914. والمناسبة كانت توصل هذا المسؤول الفرنسي بدراسة أنجزها مكتب فرنسي للفلاحة، حدد منطقة مكناس على اعتبار أنها أنسب منطقة لإقامة مزارع الكروم الموجهة لإنتاج أجود الخمور.

التقرير، أكد أن الخمور التي يمكن إنتاجها في المغرب، سوف تتجاوز جودتها بالتأكيد سمعة أرقى المزارع الفرنسية، على اعتبار الظروف المناخية لمنطقة مكناس.

هكذا إذن انطلق إنتاج الخمور في مدينة مكناس، واحدة من المناطق التي سبقت بقية مناطق المغرب في هذا المجال. حيث روج الفرنسيون لهذا التقرير، وانتقل فلاحون فرنسيون إلى المغرب خصيصا لممارسة هذا النوع من الفلاحة، وأقاموا مخازن للتخمير، وهو ما تلاه إقامة الشركات الأولى لتصدير الخمور. إذ إن هؤلاء المعمرين الفرنسيين لجؤوا إلى تصدير خمورهم إلى فرنسا، وروجوا لها على أنها مصنوعة في المغرب.

لا توجد للأسف أرقام دقيقة لدى أرشيف الإقامة العامة الفرنسية، من شأنها أن تصف بدقة أولى المعاملات التجارية لشركات الخمور الفرنسية في المغرب. لكن المعلومات المتوفرة تؤكد أن الأمر بدأ بشركات عائلية صغيرة، كان أصحابها مدركين أن ترويج الخمور التي سوف يتم إنتاجها في المغرب سيعرف صعوبات كثيرة، لذلك فكروا مباشرة في تصديرها نحو فرنسا، منافسين بهذه الخطوة أكبر الشركات التي كانت متركزة في الجنوب الفرنسي.

الدعاية الفرنسية لهذه الخمور قامت على أنها أنتجت في المغرب، وفي أجود المزارع التي استطاع المعمرون الفرنسيون حيازتها منذ 1912، وهذا ما جعل مزارعين فرنسيين آخرين يشدون الرحال مباشرة إلى المغرب، وبالضبط إلى منطقة فاس ومكناس، لكي يبدؤوا بدورهم أنشطة فلاحية هناك، وبالضبط في مجال إنتاج الخمور.

كان لا بد لهؤلاء المعمرين الفرنسيين أن يحيطوا نشاطهم في البداية بنوع من السرية. وحسب المعلومات المتوفرة، فإن هؤلاء المعمرين استعملوا السكان المحليين المغاربة في غرس مشاتل العنب وإصلاح الأراضي الزراعية، لكنهم أبقوا مخازن التخمير بعيدة عن الأعين.

حتى أن بعض التقارير الفرنسية التي تعود إلى مصالح البوليس في الدار البيضاء، كانت تعمم نشرات دورية على رعاياها الفرنسيين في المناطق الزراعية المعزولة، تنصحهم فيها بضرورة اقتناء أسلحة مرخصة وحماية ممتلكاتهم بأنفسهم، خصوصا المخازن.

بالعودة إلى مسألة أولى المزارع، فإن الاستثمارات الفرنسية في المغرب – ومن بينها الخمور طبعا- منذ فرض الحماية إلى حدود سنة 1938، بلغت 556 مليار فرنك فرنسي، حسب ما وفره مركز أندري آدم من معطيات.

وإذا تأملنا الصادرات التي أنتجها الفرنسيون في المغرب، حسب المركز نفسه دائما، سنة 1915، فإنها قد بلغت 109.800 فرنك فرنسي فقط. بينما في سنة 1940 وحدها، الفترة التي شهد فيها نشاط إنتاج الخمور في المغرب طفرة نوعية، بلغت الصادرات من المغرب نحو فرنسا، أزيد من مليون وخمسمائة وسبعين ألف فرنك. وهو ما يؤكد على أهمية قطاع إنتاج الخمور في المغرب، وتوجيهها نحو فرنسا.

 

مكناس 1670.. حين سُمح للنصارى باستهلاك «الماحيا»

بحسب ما رواه الأسير الفرنسي «مويط»، الذي وقع أسيرا لدى البحارة المغاربة بعد أن ضلت السفينة التي كان على متنها طريقها سنة 1670، فإن السلطان المولى إسماعيل سمح للأسرى الذين كانوا في مكناس بشرب «ماحيا» كان يُنتجها اليهود المغاربة في الملاح الخاص بهم. وسبب إقدام المولى إسماعيل على هذه الخطوة، أنه انتبه إلى التعب الذي سيطر على هؤلاء الأسرى الأوروبيين، وفكر في مكافأتهم وتشجيعهم على رفع وتيرة العمل أثناء أشغال بناء قصر مكناس.

الباحث المغربي محمد حجي، كان أول من انفرد بالاطلاع على المخطوط الذي كتبه هذا الفرنسي عندما أطلق سراحه وعاد إلى فرنسا، يوم 19 يوليوز 1681، وترجمه إلى العربية متيحا للمغاربة الاطلاع على فترة مهمة من تاريخ المغرب، بعيون فرنسية.

يقول الأسير مويط في مذكراته:

«عندما جاء ذلك الأمير يوما ليرى هدم الأسوار القديمة، تعجب من كون المسيحيين يتابعون العمل ببطء كبير، فسأل من كان معه عن السبب، فقال له القائد زيدان إن المسيحيين تعودوا في بلادهم على شرب الخمر وماء الحياة وبما أنهم الآن لا يشربون إلا الماء، ولا يأكلون إلا الخبز، ارتخت أعضاؤهم وأصبحوا غير قادرين على القيام بالعمل الشاق. فإذا أراد أن تسره رؤيتهم وهم يعملون جيدا، فما عليه إلا أن يأمر بإعطائهم ملء ثلاث أو أربع طاسات من الخمر لكل واحد، وسيرى أنهم يعملون بكيفية أخرى. بدأ الملك يضحك وأرسل في طلب شيخ اليهود وأمره بإحضار أربع جرات كبيرة من الخمر. وبعد أن وزعت على الأسرى، ذهب الملك يتفسح. ولما رجع اندهش لرؤية المسيحيين يتقدمون في العمل أثناء الساعتين اللتين قضوهما قبل عودته أكثر مما عملوه طيلة ثلاثة أرباع النهار. لذلك أمر الملك اليهود بتزويد المسيحيين كل أسبوع بعشرة قناطير من الزبيب ومثلها من التين، ليصنعوا ماء الحياة. إلا أنه حظر عليهم بيعها أو إعطاءها للمسلمين، تحت طائلة عقوبات مشددة. كان ذلك هو الوقت الذي عين فيه الدون بيدرو رئيسا للأسرى، وقتله بدعوى أنهم خالفوا أوامره».

هناك مراجع أخرى تحدثت عن واقع صناعة الخمور واستهلاكها في المغرب، خلال القرنين 18 و19. وهذه الشهادات كلها تُجمع على أن المغاربة كانوا لا يتساهلون مع مستهلكي الخمور التي كانت تُصنع محليا، وتحل بهم عقوبات تتراوح بين التأديب العلني، أو الزج في السجن إلى أن يعلنوا إقلاعهم عن الشرب.

يستفاد من هذه الشهادات أيضا، أن إنتاج الخمور كان مسموحا به فقط لليهود المغاربة حصرا، وذلك لأنهم يستهلكون خمورهم المحلية في مناسباتهم الدينية داخل الملاح، الحي اليهودي. وكان السلطان أو الخليفة السلطاني في المدينة، يضع قوانين صارمة تمنع على اليهود المغاربة تفويت الخمور للمسلمين أو بيعهم إياها. لكن مستهلكي الخمور من المسلمين، لم يكونوا ينتظرون الحصول على حصص مهربة من ملاّح اليهود، بل كانوا يصنعون خمورهم بأنفسهم، خصوصا «الماحيا» المحلية، في سرية تامة، بعيدا عن أعين ممثلي سلطة المخزن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى