شوف تشوف

الرأي

الأمراض النفسية والبيولوجية

بقلم: خالص جلبي

الطبيب في العادة يشهد بعض المناظر الدرامية التي تحفر في الذاكرة آثارا لا تمحى، ومن إحدى الصور التي لا تفارق مخيلتي ذلك المريض الذي سقط في أرض العيادة وبدأ (يتلوى) من الألم ويتدحرج، وكأن العضوية تقوم بهذه الآلية الذكية كي تسكت ألما بألم آخر. وكنت أسمع في اللغة العربية لفظة (يتلوى من الألم) فعاصرتها ورأيتها مع تلك اللقطة الفريدة، وعيون الطبيب ترى كل يوم الجديد والعجيب من تيار الحياة المتدفق وتظاهراته المرضية، وعرفت من خلالها أن ألم (القولنج – COLIC)، سواء المراري أو الكلوي، هو من النوع الرهيب حقا الذي لا يتمناه المرء لأحد. وقد يتساءل المرء هل تتصرف العضوية بشيء من الغباء؟ ذلك أن القولنج هو عصر الأنبوب (سواء المراري أو البولي) على مكان الحصاة، بغية عصرها وطرحها إلى الخارج، وهذا التشنج الفظيع من العضلات هو على الألياف العصبية في المنطقة التي تطلق صفارات الإنذار؛ أن هناك اختناقا في المسالك يجب أن يسوى وضعه ويعاود التصريف لما كان عليه سابقا، ولكن الواقع أن العضوية بهذا المسلك لا تتصرف بغباء؛ وإنما بحكمة لأنها تريد إنقاذ الجسم من الخطر المحدق، ففلسفة الألم في الجسم عميقة الحكمة، فهي تحرك منعكسات عصبية لا تهدأ، كي يركض الإنسان باتجاه الطبيب والعلاج، لأن (حصاة) الأقنية المرارية المثيرة للقولنج سَتُختم بتليف الكبد، و(حصيات) المسالك البولية ستنتهي بدمار الكلية وتعفن البدن بمخلفات (زبالة) البدن التي لا تُنظف باستمرار.
وفي الواقع إذا مضينا في تحليل (المرض العضوي) البيولوجي، فإننا يمكن أن نبصر في النهاية أن المرض هو تعبير عن خلل في (وظيفة) العضو، فالاختناق في مجرى الأقنية المرارية أو المسالك البولية أو المجرى الهوائي أو قناة الدمع أو الوعاء الدموي كلها ذات نتائج كارثية من تشمع الكبد أو استسقاء الكلية أو انقطاع التنفس أو خرير العين الدائم أو تموت (غانغرين) الطرف، والعضوية تعمل في حالة الصحة بشكل دورة في غاية الأناقة والجمال والحكمة بين (الإفراز) و(الإفراغ) وهكذا تبقى العين مبللة، والطعام مهضوما، والدم نظيفا، والهواء سالكا، والأطراف نشيطة متوردة.
والمرض حينما يحل بكلكله هو في إحدى صورتين؛ إما زيادة الإنتاج أو نقصه بين حافتي الإفراز والإفراغ، وهكذا فالغدة الدرقية المستقرة في العنق المسؤولة عن النشاط العام في البدن هي في حالة إحكام وحلقة توازن مدهشة بين إفراز الهورمون واستهلاكه، وأي خلل في الزيادة أو النقص يقود إما إلى فرط النشاط وجحوظ العينين وارتعاش اليدين وفرط التعرق ورجفان القلب، أو نقصه بالكسل والخمول والعجز وتساقط الشعر وبطء الحركات، وكذلك كان الحال في التعامل مع الجراثيم المحيطة بنا مثل الذئاب من كل جانب، فالفضل يعود إلى استقرار أخلاطنا الداخلية وقيامنا بنشاطنا المعتاد، هو ذلك التوازن الصلب المحكم بين وجود الجراثيم وفعالية الجهاز المناعي، والمرض هو انكسار هذا التوازن لمصلحة الجراثيم، والأدوية، والصادات الحيوية هي دخول (فرق عسكرية) جديدة لمساندة الجهاز المناعي وضرب الجراثيم، كي ينقلب الميزان لصالح الجهاز المناعي في النهاية، فهذه هي استراتيجية الحرب ضد الجراثيم.
هذا المستوى واضح للغاية في المستوى البيولوجي ولا يخلو من تعقيداته الخاصة وفلسفته العميقة وحكمته الملفتة للنظر، ولكن الشيء الذي لا ننتبه إليه ولا يلفت نظرنا هو طبيعة أمراض من نوع آخر في البعد النفسي الاجتماعي أو حتى الحضاري؛ فإذا ذهبنا إلى تعريف المرض كما ذكرنا سابقا أنه اختلال وظيفة العضو، فإن هذا يمكن حمله وتطبيقه في مستويات أخرى وشرائح متباينة، فالمرض هو قدر الوجود، فالنبات يمرض، والحشرة تعجز، والحيوان يهزل، والإنسان يذوي، والمجتمع يتراجع، والدول تكبو، والحضارات تنهار.
وإذا كان المرض البيولوجي سهل الكشف فإن المرض النفسي ليس بهذه السهولة، فالمصاب بقولنج كلوي يهرع إلى الطبيب ويسلم ذراعه لحقنة المسكن، ولكن هل ينتبه الإنسان إلى أنه مصاب بـنزلة (حسد) أو احتقان (كراهية) أو قولنج (كذب) أو التهاب (حقد) حاد أو سرطان غرور؟ الذي يحصل في العادة هو العكس، وهي مفارقة عجيبة في الجدل الإنساني، وإمكانية صوم الإنسان عن ذلك الغذاء الفاسد لمدة 24 ساعة، تتطلب ضبط نفس ليس عاديا.
المريض بالتهاب الزائدة الدودية الحاد يضع يده على بطنه ويطير إلى المستشفى، والمصاب بنوبة اختناق حادة من الربو يركض إلى الإسعاف، ولكن المصاب بنوبة حسد أو حقد هل يحس ويدرك أن وضعه ليس على ما يرام ويحتاج إلى علاج.
هل يمكن للمصاب بجمود عقلي وتحنط في فهم العالم أن ينتبه إلى أنه أصبح خارج التاريخ والجغرافيا، وأن أجهزته العقلية بحاجة إلى إعادة تشحيم مفاصل الفهم، بل واستبدال بعض قطع (الغيار) العقلية؟
الجميل في المرض النفسي أنه لا يحتاج إلى قاعات جراحية مزودة، كما لا يحتاج إلى قسم إسعاف. لحسن الحظ أن طبيعة النفس تحتاج إلى مداخلات من نوع مختلف، وهي نفسية داخلية بالدرجة الأولى، أهمها إحياء الجدل الداخلي وانبعاث آلية النقد الذاتي، التي تفتح الطريق على وعي الذات، الذي هو أرفع أنواع الوعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى