الأمثولة باقية.. وتتمدد
مرّت قبل أيام الذكرى الأربعون لرحيل الفنّان الأمريكي الأسود بول روبسون (1976-1898)، ذلك الرجل/ الظاهرة الذي مثّل مزيجاً عبقرياً من الفنون والأخلاق والمواقف، حتى بات نموذجاً رفيعاً في كلّ حديث صادق، كما في كلّ تشدّق كاذب، عن معجزات «الحلم الأمريكي»، دون سواه. لقد ولد لأبٍ إفريقي الجذور، تمرّد على استعباد السود في ولاية كارولاينا الشمالية، وقاتل ضدّ الجنوبيين أثناء الحرب الأهلية، وجسّد الدم الذي أراقه السود من أجل تطهير روح أمريكا من آثام تمييز عنصري بغيض بشع. وأمّا روبسون الفتى، فقد كان أوّل طالب أسود يتخرّج في مدرسة الحقوق في جامعة كولومبيا، وأوّل ممثّل أسود يؤدّي دور عطيل في مسرحية شكسبير (إذْ كان البيض يقومون بالدور، بعد طلاء وجوههم بصباغ أسود!)، وأوّل مغنٍّ أسود يتجرأ على رفض الغناء في صالة يحظّر على السود دخولها. كذلك كان أوّل فنّان أمريكي أسود يأسر قلوب البريطانيين، وأوّل أمريكي غنّى للعاصمة الإسبانية مدريد وهي تسقط في براثن الفاشية، وأبرز قدوة نضالية أمريكية استلهمها زعماء أفارقة شباب من أمثال جومو كينياتا وكوامي نكروما.
لقد كان، استطراداً، الأمريكي الأسود الأوّل في هذه الاعتبارات، وفي الكثير سواها. ولكنه لم يكن الأوّل في ناظر الملايين من مواطنيه الأمريكيين البيض، ولم يقتصر الأمر على مشاعر عنصرية كتيمة أو مكتومة في الصدور، لأنّ المؤسسة بدورها وقفت ضده، بكلّ ما تستدعيه قامته الشامخة من شراسة في توجيه الضربة. وهكذا، سحبت وزارة الخارجية جواز سفره لأنه يتدخّل في شؤون السياسة الخارجية الأمريكية (دافع روبسون عن حقّ الدول الإفريقية في تقرير مصيرها!)؛ وأحالته المكارثية إلى المحاكمة أمام لجنة النشاطات المعادية لأمريكا، ولفّقت له ملفات اتهام باطلة؛ ومن جانبها، سهرت أجهزة المخابرات المركزية على ضمان التعتيم الإعلامي التامّ حول نشاطاته الفنية.
باختصار، وحسب الكاتب والمؤرّخ الأمريكي بول كنيدي: «في عام 1948، قرّرت وكالة المخابرات المركزية تدمير بول روبسون. لقد كان مستقبله الفني يعد بالكثير من التألّق والتأثير، ولكنهم عملوا جاهدين على تجميد الزمن، وتجميد بول روبسون في ما نعيشه نحن من أزمنة، تمهيداً لاستبعاده من الوجود وفق مفهوم جورج أورويل عن الكائن الموجود في حال التغييب وحدها». لماذا؟ لأنه، ببساطة مريعة، عكس أكثر مما يمكن أن تحتمله تلك المؤسسات من «تعددية» في ألوان الحلم الأمريكي؛ وكان شيوعياً، ربما أكثر بكثير مما ينبغي، أو يمكن، للأخلاق الليبرالية أن تحتمل؛ وكان، قبل هذا وذاك، عبقرية سوداء، ولكنها، في العقيدة، حمراء!
وذات يوم، حين أرادت أن تشارك في إحياء الذكرى المئوية لولادته، اختارت الأسبوعية الأمريكية New Republic المعلّق لي سيغيل للقيام بمهمة استحضار الوجوه المتناقضة لشخصية روبسون، فلم يكن مفاجئاً أنه كتب التالي: «لقد كان رجلاً عاطفياً شجاعاً، ولكنه كان حماراً مغروراً جباناً. كان التزامه السياسي (بفكرة الشيوعية) تامّاً، لأن موهبته الفنية كانت ناقصة. لقد كان مصدر أذى للعنصرية الأمريكية البيضاء، ولكنه كان متواطئاً مع الشرّ»… وهذا مجرّد غيض من فيض في مقالة طويلة امتدت على أربع صفحات، وبدا وكأنها قفزت من أرشيف الحرب الباردة في أربعينيات القرن الماضي.
ولكي لا يبدو روبسون وحيداً في هذا الاستهداف، تُقتبس حكاية بوب مارلي مع المخابرات المركزية الأمريكية؛ كما سجّلها البريطاني جريمي مار، في شريطه الوثائقي «موسيقى التمرّد: حكاية بوب مارلي». هنا تحقيق، صاعق حقاً، في الحادثة التي وقعت أواخر العام 1976، حين اقتحم ملثّمون مقرّ مارلي، وأمطروه بوابل من الرصاص، وشاءت المصادفة وحدها أن تخترق الطلقة الذراع الأيمن للمغنّي الشهير، وليس قلبه. آنذاك كان «ملك الريغي»، أحد أشهر ألقاب مارلي، قد حسم خياراته في دعم مايكل مانلي، زعيم «الحزب الوطني الجامايكي»، والسياسي الاشتراكي العالمثالثي الذي كانت وكالة المخابرات المركزية تناهض وصوله إلى السلطة في جامايكا، حتى عبر صندوق الاقتراع!
بالنسبة إلى المخابرات المركزية، كانت الرسالة السياسية (في موسيقى الـ«ريغي») تشكّل خطراً مباشراً، لأنها تسهم في إيقاظ الوعي السياسي عند الجامايكيين الأكثر فقراً، أي في صفوف الجزء الأكبر من السكان. وفي مثل هذا المناخ ولدت، وعلى نحو طبيعي كما ينبغي أن أقول، فكرة استهداف حياة «بوب مارلي»، يعترف فيليب آجي، العميل السابق للمخابرات المركزية الأمريكية، أمام كاميرا مار. والحقّ أنّ هذا الشريط لا يعلّمنا جديداً حول نهج الاستهداف المباشر الذي اعتمدته الأجهزة الأمنية الأمريكية ضدّ فنانين كبار، وإنْ كان يزوّدنا بمادّة تحقيقية جديدة ومُحكمة، كما يسرد روايات صاعقة أدلى بها شهود عيان أو عملاء سابقون أو أصدقاء وأقارب. وهكذا نتذكّر أنّ أمثولة روبسون ومارلي ليست باقية فقط، بل هي تتمدد!